ولقد نقلوا في أساطير الأولين عن "ميداس" أنه بلغ من فرط الغنى أن لا يلمس بيده شيئا إلا استحال ذهبا، فأرادت آلهة الخرافات أن لا ينخدع الناس فيه ولا يسحر أعينهم أو يسترهبهم، وأن يعلموا أنه إنسان، وأن فرط الغنى مثلة به، فمسخ "أبولون " أذنيه فكانتا ... أذني حمار ... ولعل فرط الغنى يا بني لا يكون في الأعم الأغلب إلا مع هذه الآذان....وما أملحها نادرة وأبعها إشارة وأحكمها ملحة! فإن كل ما في الحمار لا بد منه لتكوينه حمارا سويا، إلا أذنيه الطويلتين، فلو حملها إنسان كميداس رزق غنى الحيوانية فهما برهان على أنه ليس بإنسان صحيح ولم يستطع أن يكون شيئا حتى ولا حمارا من الحمير! وأي شيء هذا الغني الذي يأكل ويتمتع ولا يرتعي من لذات الحياة إلا الخضراء الناضرة، وقد سلط على هلكه ماله أو سلط ماله على هلكته فإن ذهبت تعتبر 'نسانا لم ترى فيه من الإنسان إلا النصف الأسفل....
أهو حيوان؟ فأين عمله الطبيعي إذن، فإني لا أرى هذه الحيوانات كلها إلا عاملة لنظام الطبيعة كما تعمل الطبيعة لها. أم هو إنسان؟ فأين عمله الاجتماعي الذي يسني منزلته إذا أصبح الناس على منازلهم، وأين الحد الإنساني الذي يصله بمجد الماضي أو يدل عليه في عمل الحاضر أو يلحقه بأمل المستقبل؟ إن الطبيعة يا بني لا تغفل خطأ ولا تنسى مذنبا ولا تصفح عن إساءة، ولكنها تضرب بيد ألطف مسا من الهواء وأخف موقعا من الضوء، على حين أن صفعتها زلزلة لا يقوم لها بناء حي، فلو أن مثل هذا الغني قد أعطي معدة حمار أو أعصاب بغل أو قوة فيل أو نحو ذلك، لتم تمامه بالمال فوجد في هذا المال مسد حاجته كيف مست، غير أنه أعطي شره الحمار دون معدته، وأعطي في هذا الباب من البغل والفيل وغير البغل والفيل دون ما يحمل ذلك وما يبعث عليه، فكأنما مسخ من باطنه مسخا على حين أن طبيعته الإنسانية لا تخلو على هذه الأبواب من هذه الشهوات ولا تصلح بها ولا تطعم فيها من الحياة. وقد حدثوا عن امرأة من ذوات النعمة الفاشية في أميركا اتخذت كلبا فوقع منها بموضع محبة شديدة، فاستصفته وتحفت به وذهبت كل مذاهبها في ترفيهه وفتحت عليه من دنياها العريضة، فنصت له السرير، وفرشت له الحرير، وأبدلته سماع الموسيقى من سماع الهرير، ومنتعه العظم يعالجه ويقرضه، وحرمته على الجوع يقعده وينهضه، وما زالت به ترأمه وتحنو عليه. فإذا هو يذوي ثم يضعف ثم يمرض ثم يهلك، وكانت المرأة كأنما تقتله بالنعمة شر قتلة، وتصب عليه العذاب صبا من ألوان ذلك النعيم، فكيف بصاحبنا الغني حين تبالغ الطبيعة في ترفيهه على من يشاء له الهوى من سنة الحمار والبغل والفيل وجماعتها كما بالغت صاحبة الكلب في ترفيه كلبها على سنة الإنسان؟ قال " الشيخ علي": الحياة يا بني مدة، والمدة ضائعة لولا العمل، والعمل على مقدار المنفعة، والمنفعة بآثارها، وهذه الآثار هي تاريخ الحياة، فالأحمق الشره الذي يعيش مقبورا في بطنه، والغني اللئيم الذي يعيش مقبورا في خزانته، والفاسق العاهر الذي يعيش في مقبورا في رذائله ومخازيه، والدنيء السفلة الذي يعيش مقبورا في جرائمه وآثامه، كل أولئك لا تاريخ لحياتهم ولا حياة لتاريخهم، فهم أناس خلقوا بخصائصهم لتمثيل ألوان العذاب وأصناف العقاب، يقع ذلك عليهم من الله ثم يقع منهم على الناس، وإنما يعان المخذول منهم على احتمال أمره بما هو فيه من الغرور وما يطوع له، وما كان الغرور وصاحبه في عاقبة الحياة ورجع الأمر كرجلين من الحمقى ضمهما طريق فاصطحبا، ثم أفضى بهما السير إلى جبل قطع عليهما، فقال أحدهما لصاحبه: إني أراك شديد الأسر قوي البضعة، وما أرى إلا أن تحمل هذا الجبل وتلقيه بعيدا من هنا، فلا مذهب لنا إلا من ورائه.....قال له صاحبه: أما إني كما وصفت، وإن بي لقدرة على حمله، فما عليك أنت إلا أن تضعه على ظهري! ... فلا الحامل أطاق فحمل ولا المعين استطاع فأعان، وإنما هما كحماري العبادي الذي قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا ...