ألا فليعلم الإنسان أن هذا العالم لا يصلح على ما هو عليه وما لابد منه لنظام الحياة، فسيأتي إن خير أو شرا، فكلنا يسمي الصعاب التي تعرض له في طريق الحياة عقبات: لأننا لا نبصر ما وراءها ولا نعرف في أي وضع تقر من نظام الحاضر أو نظام المستقبل، وهي لو تعلمون وسائل لما بعدها، فما تراد لنفسها أكثر مما تراد لغيرها، وهي بأن تكون مقيدة بهذا أحرى من أن تكون مقيدة بذاك، ورب صخرة حالت في طريقك لتلفتك إلى هاوية من ورائها، أو تتقي بها عدوا يدلف إليك من ورائك! والأعرج الذي يتأبط سناده ويتخذ منه رجلا تبدأ من الكتف، لا يكاد يعرج بضع سنين حتى يستفيض صدره ويكتنز عضله ويتفتل ويصبح لحيماً بادناً كأنما جمع في زنده حجم يده إلى حجم رجله التي رمي فيها، وكان مرهفا دقيقا متهدم الصدر بارز الأضلاع خاوي العروق ممسوحا في جملته، ثم أنت لا تراه إلا ساخطا متبرما يكاد يتحطم غيظا ويلعن سناده وما حمل ... واليوم الذي حمل فيه، والسبب الذي حمله به، ويرى كأن العرج هو الذي قطعه عن شأو المعالي وكان سباقا ... ويظن عند نفسه أن هذا العرج قد جعله في مشيته الممثل المضحك على مسرح الحياة! ولا كل هذا يا رجل، فهل نسيت ويحك أن السعال كان ينفضك نفضة الموت، وأن البرد كان قد اتخذ من أضلاعك سقفا يأوي إليه، وأن الأمراض لم تبرح ترميك آونة بعد أخرى كأنها تلين عظامك القاسية للضجعة الأخيرة، ولأنك كنت لا محالة هالكا تنفث رئتيك من شفتيك، وتبصق روحك تحت رجليك، وأنه لولا الداء الذي يسمى العرج، لهلكت بالداء الذي يسمى السل؟ هذه واحدة يا بني، وما من واحدة إلا وهي أختها، وحكمة الله لا تختلف، بل هي هي في كل شيء وإن كنا لا نعلم، وما خلق شيء عبثا، فتعالى الله الملك الحق، ولقد أعرف أن ما لم يقض لي فهو مقضي لغيري، وأنه لا بد أن أذهب في هذه الحياة بقسط من مصائبها، لأنه جزء من نظامها يتوقف على وجودي عليه، وهل أنا بدن يملأ الأرض ورأس طبق السماء، فيكون الفلك عمامتي، والقضاء غمامتي، وكل خير لهامتي؟. إن أنا يا بني من هذا الناس في أقدار الحياة المكتوبة إلا كالجندي في العسكر نصبته الحرب آلة حية تحركها ألفاظ وإشارات من حيث تأتي! فهو يندفع إلى الموت ويشوي من لحمه على النار متى أرادت خطة الحرب أن تنبعث وتتحرك، وإنما هو بجسمه وروحه وعقله نقطة صغيرة في خط صغير من خطط كثيرة مثله رسمت بها فكرة أمير الجيش على صفحة الميدان، فليس للجندي أن يسأل عند الحركة: لماذا ... ؟ إذ هولا يجد من يقول له: لأن..! ولكن متى أزفت الآزفة وحقت النهاية بالنصر والهزيمة، رأى العمل الذي وراءه كأنما انقلب أحرفا وكلمات يستوضح منها فكرة القائد كما رسمها! قال "الشيخ علي": ومن الأسئلة في هذه الحياة ما يولد حين يموت جوابه كما رأيت، فهو حمق من السائل ومضيعة، لأنه لا جواب عليه، وربما اعتده الأحمق معضلة من المعضلات وكد ذهنه فيه وقصر همه عليه وجعل يلقى به الناس ويفتح له الأحاديث، وذلك سخف لا يوجد به الجواب الصحيح ولكن يضيع فيه السائل، إذ يستفيد من وسعه وعمله وحيلته، ثم لا يرد عليه من كل ذلك إلا بالخيبة، وهذا، أعزك الله، سر من أسرار ضيق الناس بالحياة وتبرهم بأقدارها، لأن أكثر أعمالهم وآمالهم من جنس ذلك السؤال، فما أقل من ينتهز من يومه قبل أن يذهب يومه، وما أكثر من يريد غدا قبل غد ...
ولكأني بهذا الإنسان يود لو أسرع الفلك في دورته وجعل يرتمي به المرامي البعيدة لينهب ما في الغيب نهبا ولينال الممكن كله وشيئا من المستحيل أيضا ... فيحيا بعد ذلك حياة طيبة عذراء لا تلد لياليها من مواليد الغيب قليلا ولا كثيراً ...