وبالله! ما تحمل الأرض إنساناً واحداً لا يخشى عادية الفقر ولا يتعوذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها، من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل من يمر به فلا يسمع إلا قائلاً يقول: نفسي نفسي ... فينظر فإذ هو في الناس ضائع حتى لا يعرف له محل، ومنفردا حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزال تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزع الرعد القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا من يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير ويا لهف أرضي وسمائي عليه! كأنه مسألة في حساب الناس لا هم لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب ثم الغلط في النتيجة ... وتنحاز طبائع الناس كلها في جهة والفقر وحده في جهة حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو واستبداد الغني.
ترى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيا بحتا: لي عليك ولك علي وليس لله علينا شيء، وفصلنا أنفسنا من السماء وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها فرثت ثم رثت فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمال البالية؟ إن هذه الحقوق متى أصبحت إنسانية محضة ليس فيها لله شيئا، فكل درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيه عقلا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقر في معدته يخلق فيها ضميرا يستبد بضميره، فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغنى، وحسبه يومئذ في اعتبار بعيد جدا عن الله ورحمته أن يقال إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قسمه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
والأدلة على هذه القضية قضية الحقوق الإنسانية كثيرة تفوت الحرص لأن كل صاحب ربا قد جمع مال السحت من استئكال الناس إنما هو في نفسه دليل عليها، ولعمري إنه وليس أحد أخيب رجاء ولا أحق بأن يخيب، ممن يسأل المتهالك على الربا الذي يستنبت دراهمه بين الأحزاب والدموع إحسانا لوجه الله، فإن هذا الذي لا يعرف الله فيما يأخذ كيف يعرف الله فيما يعطي؟ قال "الشيخ علي": ولماذا نرى يا بني جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط ولا يخشون منه على الفقير؟ أظنهم يقولون إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبور الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان لأنه يشملهما جميعا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي ... نعم صدقوا أبروا وقالوا حقا، أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موت منسي كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهر حي وضمير ميت؟ وأحسب أولئك الطغاة يقولون، إننا نرى الفقير لا يملك من الأرض شيئا محدودا بل هو يملك أرض الله كلها بحدودها الأربعة.. ففقر فلان التاجر الغني مثلا ليس هو في الحقيقة أن لا يصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال، بعد الأموال، وقبض الريح، واستقبال الأبواب والجدران، بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهام من هذا الباب الذي يفتح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر، والمذلة، والألم، وإنما هو رجل ككل رجال المال متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس وحرج حبه من أفواه الناس وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضا من الدنيا ...