ثم شهقت فماتت فواريناهما معاً. قال عبد الله: فأقمت سبع سنين ثم رجعت إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لا أبرح أو أزور عتبة، وجئت فإذا أنا بشجرة عليها ألوان من الورق قد نبتت على القبر، فسألت عنها فقالوا شجرة العريسين.
*
هو أبو مالك الصمة بن عبد الله بن مسعود بن رقاش القشيري التغلبي من بني ربيعة، كان أديباً شجاعاً عارفاً بأيام العرب ووقائعها ومواضعها وكثيراً ما يسند إليه إبن دريد والأصمعي، قال الفوّار والوزير أنه أدرك أوائل الإسلام.
و" ريا " هي بيت مسعود ن رقاش أيضاً، كانت ذات ظرافة وفراسة ومعرفة وحسن نشأت مع الصمة صغيرين وكانا يتذاكران الأدب وملح الأشعار فأعجب بها وتمكنت منه ولم يكن عندها منه مقدار ما عنده منها، فلما شكا ما يجد منها إلى بعض أصدقائه أرشده إلى تزوجها، فخطبها إلى عمه، فأنعم على مائة من الإبل، فمضى الصمة إلى أبيه فأعطاه تسعاً وتسعين فأبى مسعود إلا التمام وعد الله إلا ذلك وحلف كل على ما قال وأقفلوا الأمر فحملت الصمة الأنفة على أن خرج عنهما إلى العراق.
فقالت الريا ما رأيت رجلاً أضاعه أبوه وعمه ببعير إلا بالصمة لما عندها من العلم بحبه لها، فلما طال عليه الأمر وتنازعه الشوق والشهامة المانعة له من العود بلا طلب مرض حتى أضناه السقم، وقيل أتى كاهناً بالعراق فسأله عما أضمر فأخبره أنه لا يتزوج بها أبداً فضعف، والصحيح كما حكاه صاحب قوت القلوب في أخبار المحب والمحبوب أنه قدم رجل يقال له غاوي بن رشيد بن طلابة المذحجي على مسعود فخطب منه ريا وأمهرها ثلثمائة ناقة برعائها، فزوجه بها فحملها إلى مذحج الصمة ذلك فلزم الوساد وطال امره، فدخل عليه رجل كان يألفه فعنفه وسلاه فأنشد:
أمن ذكر دار بالرقاشين أعصفت ... به بارحات الصيف بدأ ورجعا
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وسعياً كما معا
فما حسنٌ أن يأتي الأمر طائعاً ... وتجزع إن داعي الصبابة اسمعا
كأنك لن تسمع وداع مفارقٍ ... ولم ترَ شعبي صاحبين تقطعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
الرفاشين إسم وادٍ بين نجد واليمن كانت تنزله بنو ربيعة، والبارحات رياح معلومة صيفية تستبشر بها العرب والضمير يعود على الوادي.
وفي قوت القلوب أعصفت بها سانحات الصيف يريد بالدار، والسانحات أيضاً لكنها لا تخص الصيف فيشكل التعيين هنا وقوله وسعياً كما هو معطوف على قوله ونفسك باعدت يريدان السعي والنفس أبعداه عن المحبوبة وغلط في قوت القلوب حيث أعرب وسعييكما نصبا بالياء على أنه معمول باعدت عطفاً على مزارك.
وقوله فما حسن أن يأتي المر وبكت عيني اليمنى البيتين قد إستعارهما المجنون وباقي الشعر واضح ويقال أن في القصيدة طولاً:
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق تحتي نزعا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... رجعت إلى الإصغاء ألوي وأجزعا
وأذكر أيام الحمى ثم إنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلِ عينيك تدمعا
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكراك ما كففت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرى لو أنه ... تضمنه صم الصفا لتصدعا
ولما طالت عليه دعا له صاحبه العراقي بطيب حاذق، فما تأمله قال إنما يشكو العشق لا غيره وأرى أن يلزم النزهة والفرح نحو البساتين ليتشاغل عما هو فيه أخرجه صاحبه مع بعض اخدم إلى الثغور، فبينا هو يوماً على شاطيء هر وقد جدّ به اكرب إذ سمع امرأة تنادي إبنتها يا ريا فسقط مغشياً عليه فأحتملوه إلى بستان هناك وأضجعوه، فلما أفاق أنشد: ّتعَزّ بصبر لا وجدك لا ترى سنام الحمى إحدى الليالي الغواير
كأن لساني من تذكري الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
ولم يزل يرددها حتى قضى، ولما وصل خبره إلى الريا داخلها من الوجد ما أمسكت معه عن الطعام والشراب وجعلت تبكي حى ماتت، ومن لطيف شعه قوه:
ألا من لعين لا ترى قلل الحمى ... ولا جبل إلا ثال إلا إستهلت