فقال له إبن سريج: ويلك ما هذا، قال: لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب لأفتحنه ولأرينهم ما بي وعلمنهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان بعني غلاماً كان إبن سريج مشهوراً به فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ففعلت بي هذا غيظاً وتأسفاً، وإنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه.
وكان أهل مكة ولمدينة يعلمون حاله معه فقال إبن سريج: أغرب أخزاك الله، قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وأمرأته طالق ثلاثاً وهو يجيز في مقام إبراهيم والكبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لفعلن. فلما أى إبن سريج الجدّ منه قال لصاحبه: ويحك أما ترى ما وقعنا فيه، وكان صاحبه ناسكاً فال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث وتذمم إبن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب اخرج من منزل الرجل فقال رجلي مع رجلك.
لما صارا في بعض الطريق قال إبن سريج لأشعب إمض عنه قال: واله لئن تعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن أنك أخذت مني سواراً من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنيها سراً وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل.
وقع إبن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال: أمضي لا أرك الله فيك، فمضى معه فلما صارا إلى باب سكينة قرع الباب فقيل من هذا فقال أشعب قد جاء بإبن سريج ففتح الباب لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت يا عبيد ما هذا الجفاء قال: قد علمت بأبي أنت ما كان متى قالت أجل، فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين ديناراً وكسوة، ثم قال لها إبن سريج: أتأذنين بأبي أنت قالت وأين قال المنزل قالت: برئت من جدّي أن برحت داري ثلاثاً، وبرئت من جدي إن أنت لم تغنِ إن خرجت من داري شهراً، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهراً إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشراً، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحداً.
فقال عبيد: وا سخنه عيناه وا ذهاب ديناه وا فضيحتاه، ثم إندفع يغني:
استعين الذي بكفيه نعي ... ورجائي على التي قتلتني
الصوت المذكور آنفاً، قالت سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر، ثم أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالاً فرمت به إليه ثم قالت: أقسمت عليك لما أدخلته في يدك ففعل ذلك، ثم قالت لأشعب إذهب إلى عزةٍ فأقرئها السلام وأعلمها أن عبيد ندنا، لتأتنا متفضلة بالزيارة.
فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم ثم أمرت عبيداً وأشعب خرجا فناما في حجرة مواليها فلما أصبحت هيء لهم غذاؤهم وأذنت لإبن سريج فدخل فتغدى قريباً منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها.
فلما فرغوا من الغذاء قالت: يا عز إن رأيت أن تغنينا فأفعلي، قالت إي وعيشك، فغنت في شعر عنترة العبسي:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم
فقال إبن سريج أحسنت والله يا عزة، وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته إلى عزة وقالت: صيري هذا في يدك ففعلت، ثم قالت لعبيد هات غننا فقال حسبك ما سمعت البارحة فقالت: لا بدّ أن تغنينا في كل يوخم لحناً. لما رأى إبن سريج أنه لا يقدر على الإمتناع مما تسأله غنّى:
قالت من أنت على ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار
قد حان منك فلا تبعد بك الدار بين وفي البين للمتبول أضرار ثم قات عزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحرث بن خالد ولإبن محرز فيه لحن عزة أحسنهما:
قرّت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثيرة البكاء كشفقاً من صدودها
وبشر خود مثل تمثال بيعة ... تظل النصارى حوله يوم عيدها
قال إبن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسناً ولا طيباً، ثم قالت لإبن سريج هات فأندفع يغني:
أرقت فلم أنم طرباً ... وبت مسهداً الصبا
لطيف أحب خلق الله إنساناً وإن غضبا
لم أردد مقالتها ... ولم أك عاتباً عتبا