البلوطي. فَقَالَ لَهُ: لقد أحسن مَا شَاءَ {فلئن كَانَ حبر خطبَته هَذِه وأعدها، مَخَافَة أَن يَدُور مَا دَار، فيتلافى الوهى، إِنَّه لبديع من قدرته واحتياطه، وَلَئِن كَانَ أَتَى بهَا على البديهة لوقته، إِنَّه لأعجب وَأغْرب} فَكَانَ ذَلِك سَبَب اتِّصَاله بِهِ، واستعماله. وَذكر ابْن أصبغ الْهَمدَانِي عَن مُنْذر القَاضِي أَنه خطب يَوْمًا وَأَرَادَ التَّوَاضُع؛ فَكَانَ من فُصُول خطبَته أَن قَالَ: حَتَّى مَتى؟ وَإِلَى مَتى؟ فكم الَّذِي أعظ وَلَا أتعظ؛ وأزجر وَلَا أزدجر، أدل الطَّرِيق على المستدلين، وَأبقى مُقيما مَعَ الحائرين {كلا إِن هَذَا لَهو الضلال الْمُبين} " إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء " الْآيَة. اللَّهُمَّ {فرغني لما خلقتني لَهُ} وَلَا تشغلني بِمَا تكفلت لي بِهِ {وَلَا تحرمني وَأَنا أَسأَلك} وَلَا تعذبني وَأَنا أستغفرك {يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ: وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله كلفاً بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها، وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة الْملك وَعز السُّلْطَان؛ فأقضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى أَن ابتنى مَدِينَة الزهراء، الْبناء الَّذِي شاع ذكره: استفرغ وَسعه فِي تنميقها، وإتقان قُصُورهَا، وزخرفة مصانعها. فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ ثَلَاث جمع مُتَوَالِيَة؛ فَأَرَادَ القَاضِي مُنْذر أَن يغض مِنْهُ بِمَا تنَاوله من الموعظة بِفضل الْخطاب وَالْحكمَة والتذكرة بالإنابة وَالرَّجْعَة؛ فَأدْخل فِي خطبَته فصلا مبتدئاً بقوله: أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون. وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون {وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين} فَاتَّقُوا الله وأطيعون {وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تَعْمَلُونَ} أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم {وَلَا تَقولُوا " سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين " فمتاع الدُّنْيَا قَلِيل، وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} وَهِي دَار الْقَرار، وَمَكَان الْجَزَاء! وَوصل ذَلِك بِكَلَام جزل، وَقَول فصل، وَمضى فِي ذمّ تشييد الْبُنيان، والاستغراق فِي زخرفته، والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ؛ فَجرى طلقاً؛ وانتزع فِيهِ قَوْله تَعَالَى: " أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015