وهذا هو الظاهر من أصل الوضع بلا شك، لكن جماعة من المصنفين في كل من الصنفين خالف أصل موضوعه فانحط أو ارتفع، فإن بعض من صنف على الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة؛ بل والباطلة، إما لذهول عن ضعفها وإما لقلة معرفة بالنقد. وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابي فأخرج أصح ما وجد من حديثه. كما رويناه عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى في "مسنده" أصح ما وجده من حديث كل صحابي، إلا أن لا يجد ذلك المتن إلا من تلك الطريق، فإنه يخرجه. ونحا بقي بن مخلد في "مسنده" نحو ذلك. وكذا صنع أبو بكر البزار قربياً من ذلك، وقد صرح ببعض ذلك في عدة مواضع من "مسنده" فيخرج الإسناد الذي فيه مقال ويذكر علته، ويتعذر عن تخريجه بأنه لم يعرفه إلا من ذلك الوجه.

وأما الإمام أحمد فقد صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى "مسنده" وأنه كله صحيح عنده، وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات، وان كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره. وهذا يدل على أنه انتخبه. ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها. وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق، قال: جمعنا أحمد أنا وابناه عبد الله وصالح، وقال: "انتقيته من أكثر من سبعمئة ألف وخمسين ألفاً فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة" (?).

فهذا صريح فيما قلناه؛ إنه انتقاه، ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة، فلا يمنع ذلك صحة هذه الدعوى، لأن هذه أمور نسبية، بل هذا كاف فيما قلناه؛ إنه لم يكتف بمطلق جمع حديث كل صحابي (?).

فكلام الحافظ ابن حجر يقيد الإطلاق الوارد في كلام الخطيب وابن الصلاح من أن المسانيد تترتب من وراء الصحاح والسنن؛ لأنها لم تلتزم الصحة ولا الإنتقاء، فمسند الإمام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015