فقال ابن سليمان: شرب الخمر يا أمير المؤمنين، فسله بأي نار طبخت؟ قال أبو دلامة: بنار الله الموصدة، التي تطلع على فؤاد من علمك. فضحك المنصور منه وأجازه.
وهن: عنان، والذلفاء، ورييم، وفضل، وملك، وخنساء، وصرف، ومخنثة، ومدام، وخشف، وعلم، وريا، وسكن. وسكن أغزرهن وأشهرهن ذكراً، وإنما أكثرهن افتناناً عنان، جارية الناطفي.
عنان جارية الناطفي وهي صاحبة أبي نواس، وبينهما معاتبات ومضاحكات، وتهاجيا في آخر أمرهما. وكان لها ظرف بارع، وأدب كامل، في سرعة جواب. وكان لها مجلس ينتابه السراة والشعراء وأهل الأدب، يطارحونها الأشعار ويناشدونها.
فمن شعراها ترثي مولاها:
يا موتُ أفنيتَ القرونَ، ولم تزلْ ... حتى سقيتَ، بكأسكَ، النطافا
يا ناطفيُّ، وأنتَ عنا نازحٌ ... ما كنتَ أولَ منْ دعوهُ فوافى
وقالت:
نفسي على زفراتها موقوفةٌ ... فوددتُ لو خرجتْ من الزفراتِ
لا خيَر بعدكَ في الحياة، وإنما ... أبكي مخافةَ أنْ تطولَ حياتي
قال محمد بن سليمان الكاتب: إفتصد الرشيد يوماً، فأهدى له يحيى بن خالد جارية عوف الخياط. فأقامت عنده شهراً، قم وهبها لخزيمة بن خازم.
ففي ذلك تقول عنان، تمدح يحيى، وتطلب أن يبتاعها:
نفى النومَ عن عينيَّ حوكُ القصائدِ ... وآمالُ نفسٍ، همها غيرُ واحدٍ
إذا ما نفى عني الكرى طولُ ليلتي ... تعوذتُ منهُ باسمِ يحيى بن خالدِ
وزيرِ أميرِ المؤمنينَ، ومنْ له ... فعالانِ من جودٍ: طريفٍ وتالدِ
على وجهِ يحيى غرةٌ يهتدي بها ... كما يهتدي ساري الدجى بالفراقدِ
بلغتَ الذي لم يبلغِ الناسُ مثلهُ ... فأنتَ مكانُ الكفِّ من كلِّ ساعدِ
تعودَ إحساناً، فأصلحَ فاسداً ... وما زال يحيى مصلحاً كلَّ فاسدِ
وكانتْ رقابٌ من رجالٍ تعطلتْ ... فقلدها يحيى كرامَ القلائدِ
على كلِّ حيٍّ من أياديهِ نعمةٍ ... وآثارهُ محمودةٌ في المشاهدِ
ففعلكَ محمودٌ، وكفكَ رحمةٌ ... ووجهكَ بدرٌ، نورهُ غيرُ خامدِ
مننتَ على أختيَّ منكَ بنعمةٍ ... صفتْ لهما منها عذابُ المواردِ
فمنَّ بما أنعمتَ منها عليهما ... عليَّ، وقاكَ الله كيدَ المكائدِ
أعوذُ من الحرمانِ منك بخالدٍ ... وطيبِ ترابٍ، فيه أعظمُ خالدِ
وذكرها يحيى لهارون الرشيد، فأمر بشرائها، فاشتراها بثلاثمائة ألف درهم، وأمر صاحب بيت المال برفع المال إلى مولاها. فقال لمولاها: اجعل لي من هذا المال عشرة آلاف درهم، فأبى أن يفعل. فأمر صاحب بيت المال بثلاثين حمالاً، فحملت البدر، وأدخلها على الرشيد، فقال: ما هذا؟ قال: هذا ثمن عنان. قال: ويلك هذا كله سرف، رده إلى بيت المال. وأبطل شراءها. ثم بعد ذلك عزم يحيى على معاودة الرشيد في أمرها، فعاق عن ذك حادثهم.
وقال: أحمد بن إبراهيم: هويت عنان فتى من أهل بغداد، لا نبات له بعارضيه، في غاية من الحسن، وكان يدعي النسك والعفاف. فطلبت وصاله فأبى. ثم أن الفتى بعد ذلك نبتت لحيته، وضجر من طول الزهد، فأتاها يلتمس منها ما كانت تلتمس منه، فأنشأت تقول:
هلا وأنتَ بماءِ وجهكَ تشتهي ... رؤدَ الشابِ، قليل شعرِ العارضِ
ألآن إذْ نبتتْ بخدكَ لحيةٌ ... ذهبت بملحكَ، ملءُ كفِّ القابضِ
مثلُ السلافةِ عادَ خمرُ عصيرها ... بعدَ اللذاذ خلًّ خمرٍ، حامضِ
وقالت:
إلى الله أشكو طارقاتٍ من الهوى ... لها في فؤادي جمرةٌ تتضرمُ
فلا مشتكى إلا إليهِ، فأنه ... أرقُّ، وأحفى بالعبادِ، وأرحمُ
وحكى عنها أبو ثابت قال: خطر بقلبي بيت شعر قلته، وتعسر علي ثانيه، وطلبت من يجيزه. فتذكرت عنان جارية الناطفي، فأتيتها وأوردت عليها الشعر، فقلت:
وما زال يشكو الحبَّ حتى سمعتهُ ... تنفسَ في أحشائهِ، أو تكلما
فأطرقت، ساعة، ثم قالت:
ويبكي فأبكي رحمةً لبكائهِ ... إذا ما بكى دمعاً بكيتُ له دما