ويروى عن أبي بكر عباس أنه قال: كنت إذا أصبت بأمر لم أبك، وكنت أتجلد، وكنت أستضر ويأخذني الكمد. فمررت يوماً، فإذا أنا بذي الرمة ينشد:
لعلَّ انحدارَ الدمع يعقب راحةً ... من الوجدِ، أو يشفي نجيَّ البلابلِ
فأصيبت بعد ذلك، فبكيت فاسترحت.
وأخذ المعنى الفرزدق فقال:
ألم ترَ أني يومَ جوِّ سويقةٍ ... بكيتُ، فنادتني هنيدةُ: ماليا
فقلتُ لها: إنَّ البكاءَ لراحةٌ ... به يشتفي من ظنَّ ألاّ تلاقيا
وذكر أن ذا الرمة كان يشبب بامرأة من بني منقر، وإسمها مي، وما رأى وجهها قط. وكانت تعاديه امرأة من سلبهة، فعملت شعراً تهجومياً، ونحلته إياه، ومنه:
على وجهِ ميٍ مسحةٌ من ملاحةٍ ... وتحتَ الثياب الشينُ، لو كان باديا
فلما بلغ ذلك ذا الرمة امتعض، وحلف أنه ما قاله. وبلغ ذلك مياً فنذرت إذا رأت ذا الرمة تنحر بدنه. فلما رأته، وكان دميماً، قالت: واسوأتاه، وابؤساه.
فبلغه ذلك، فقال: ما كنت قلت ذلك الشعر، وإنما أنا الآن أقوله وأزيد عليه.
وقوله فيه:
على وجه ميٍ مسحةٌ من ملاحةٍ ... وتحتَ الثياب الشينُ، لو كان باديا
ألم ترَ أنَّ الماءَ يخبثُ طعمهُ ... وإن كان لونَ الماءِ أبيضَ صافيا
وكان أيضاً يشبب بامرأة أخرى اسمها خرقاء، وكانت من ولد ربيعة.
وروى محمد بن الحجاج بن عمرو بن يزيد بن أخي ذي الرمة، قال: حججت، فمررت على خرقاء التي كان يشبب بها ذو الرمة، وهي بفلجة، فملت إليها، فقالت: أقضيت حجك وأتممته؟ قلت نعم، قالت: أما علمت أني منسك من مناسك الحج؟ أما سمعت عمك يقول:
تمامُ الحجِّ أن تقفَ المطايا ... على خرقاءَ، باديةَ اللثامِ
فقلت: لقد أثر فيك الدهر! فقالت: أما سمعت قوله أيضاً:
وخرقاءُ لا تزدادُ إلا ملاحةٌ ... ولو عمرتْ تعميرَ نوحٍ، وجلتِ
ثم قالت: رحم الله عمك، شهرني بين الناس، وما رأى وجهي، ولا سمع كلامي. ومما يستحسن من قوله فيها:
لها بشرٌ مثلُ الحرير، ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي، لا هراءٌ ولا نزرُ
وعينانِ، قال الله: كونا، فكانتا ... فعولانِ بالألبابِ ما تفعل الخمرُ
وتبسمُ لمح البرقِ عن متوضحٍ ... كلونِ الأقاحي، شابَ ألوانها القطرُ
ومما يستحسن من معانيه المبتدعة:
وأرمي إلى الأرض التي من ورائكم ... لترجعني، يوماً، إليكِ الرواجعُ
ووالله، إن هذا معنى حسن، وسبك بديع. وقوله:
لئن قطع اليأسُ الرجاءَ، فإنهُ ... رقوءٌ لتذرافِ الدموعِ السوافكِ
لقد كنتُ آتي الأرضَ، لا يستفزني ... لها الشوقُ، إلا أنها من دياركِ
ومن غزله:
ألا لا أرى الهجرانَ يشفي من الهوى ... ولا واشياً عندي بسوءٍ يعيبها
إذا هبتِ الأرواحُ من نحو جانبٍ ... به أهل ميٍ، هاج شوقي هبوبها
هوىً تذرفُ العينانِ منه، وإنما ... هوى كلِّ نفسٍ حيثُ حلَّ حبيبها
قال المبرد: مات ذو الرمة بأصبهان بالجدري، وآخر ما قاله ساعة مات:
يا مخرجَ الروحِ من جسمي إذا احتضرتْ ... وفارجَ الكربِ، زحزحني عن النارِ
وكان مسعود أخو ذي الرمة شاعراً مجيداً. وله يرثي أوفى ابن دلهم:
نعى الركبُ أوفى، حين آبتْ ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍّ، فأوجعوا
نعوا باسقَ الأفعالِ، لا يخلفونهُ ... تكادُ الجبالُ الصمُّ منه تصدعُ
خوى المسجدُ المعمورُ بعدَ ابن دلهمٍ ... وأضحى بأوفى رهطهُ قد تضعضعوا
تعزيتُ عن أوفى بغيلان بعدهُ ... عزاءً، وجفنُ العين ملآنُ مترعُ
ولم ينسني غيلانُ من ماتَ قبلهُ ... لكن نكاءُ القرحِ بالقرحِ أوجعُ
وكان له أخو اسمه هشام. ومن شعره:
وخرقٍ تموتُ الريحُ في حجراتهِ ... دآميمهُ موصولةٌ، وسباسبهْ
قطعتُ، ويومٍ ذي هماذي تلتظي ... به القورُ من وهجِ اللظا، وقراهبهْ
القور: الظباء. والقراهب: مسان الخمر. وهماذي من الحر: مثل جمادى بالبرد.
كأني ورحلي فوقَ أحقبَ لاحهُ ... من الصيف أجاجٌ تلظى صياهبهْ
طوى بطنهُ طولُ الطرادِ، فأصبحتْ ... تقلقلُ من طول الطرادِ زواجبهْ