كمْ من صديقٍ لي أسا ... رقهُ البكاءَ من الحيا
فإذا تفطنَ لامني ... فأقولُ ما بي من بكاءِ
لكنْ ذهبتُ لأرتدي ... فطرفتُ عيني بالرداءِ
قال بشار: يا عتبة ما أشعرك! إلا أنك سرقتني، قال: وما قلت يا ابا معاذ؟ قال:
وقالوا: قد بكيتَ، فقلتُ: كلا ... وهل يبكي من الجزعِ الجليدُ
ولكني أهابُ سوادَ عيني ... عويدُ قذىً له طرفٌ حديدُ
فقالوا: ما لدمعهما سواءٌ ... أكلتا مقلتيكَ أصابَ عودُ؟
فقال له أبو عتاهية: وأنت يا بشار أخذت هذا المعنى من قول الآخر:
يقولُ خليلي يومَ أكثبةِ النقا ... وعيناي من فرطِ البكا تكفانِ
أمنْ أجل دارٍ بين لوذانَ فالنقا ... غداةَ اللوى عيناكَ تبتدرانِ
فقلتُ: ألا لا، بل قذيتُ، وإنما ... قذى العينَ مما هيجَ الطللانِ
ومن معاني أبي عتاهية المخترعة:
وإذا شكوتُ إلى المحبِّ رأيتهُ ... يجدُ الذي أشكو إليه لديهِ
وإذا شكا أيضاً إليَّ ظننتهُ ... قد مسَّ قلبي، مرةً، بيديهِ
منْ لم يكنْ فيما شكوتُ به الذي ... في الحبِّ مثلي، هانَ ذاكَ عليهِ
إنَّ المحبَّ إذا تطاولَ سقمهُ ... يلقى المحبَّ، فيستريح إليهِ
أخذه بعض المحدثين فقال:
لو علقتَ الهوى عذرتَ، ولكن ... إما يعذرُ المحبَّ المحبُّ
ومثله:
لا تلمْ صبوتي فمن حبِّ يصبو ... إنما يرحمُ المحبَّ المحبُّ
ويقال: إن أبا عتاهية غلب على قلب الرشيد، فغضب عليه موسى الهادي بذلك السبب، وتوعده، فقال يخاطب المهدي:
ألا شافعٌ عندَ الخليفةِ يشفعُ ... فيدفع عني كربَ ما أتوقعُ
فإني، على علمِ الرجاءِ، لخائفٌ ... كأنَّ على رأسي الأسنةَ شرعُ
رماني وليُّ العهدِ موسى بغضبةٍ ... فلم يكُ لي، إلاّ الخليفةُ، مفزعُ
وليس امرؤٌ يمسي ويصبحُ عائذاً ... بظلِّ أميرِ المؤمنينَ، مروعُ
ثم أقبل على مديح موسى. فمن مدائحه قوله:
لهفي على الزمنِ القصيرِ ... بين الخورنقِ والسديرِ
إذ نحنُ في غرفِ الجنا ... نِ نعومُ في بحرِ السرورِ
في فتيةٍ ملكوا عنا ... نَ الدهرِ، أمثالِ الصقورِ
ما منهمُ إلا الجسو ... رُ على الهوى، غيرُ الحسورِ
يتعاورونَ مدامةً ... صهباءَ من حلبِ العصيرِ
عذراءَ، رباها شعا ... ع الشمس في حر الهجيرِ
حلبتْ على قومٍ كرا ... مٍ سادةٍ، في درعِ قيرِ
ومشمر يسعى أما ... م القومِ كالرشأ الغريرِ
بزجاجةٍ تستخرجُ ال ... سرَّ الدفينَ من الضميرِ
تذرُ الحليمَ، وليس يد ... ري ما قبيلٌ من دبيرِ
ومخدراتٍ زرننا ... بعدَ الهدوِّ من الخدورِ
نفحٌ روادفهنَّ يل ... بسنَ الخواتمَ في الخصورِ
متغمساتٍ في النعي ... مِ، مضمخاتٍ بالعبيرِ
يرفلنَ في حللِ الجما ... لِ، وفي المجاسدِ والحريرِ
ما إنْ يرينَ الشمس إلاّ ... الفرط من خللِ الستورِ
ولقد غططنا البؤسَ في ... لججِ الغضارةِ والسرورِ
فمحا لذاذةَ عيشنا ... مرُّ الليالي والشهورِ
وغدا فألهب في الرؤو ... سِ، وفي اللحى شعلَ القتيرِ
فالى ولي العهدِ مه ... ربنا من الدهرِ العثورِ
وإليهِ أتعبنا المط ... يَّ بالرواحِ، وبالبكورِ
صعرَ الخدودِ كأنه ... نَّ كسينَ أجنحةَ النسورِ
هوجاً يطرنَ بزائرٍ ... يهدي المديحَ إلى مزورِ
أضحتْ لموسى بيعةٌ ... في الملكِ أثبتُ من ثبيرِ
فرضي عنه وأجازه. فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد قدمه ووفر له الجراية، وأمره بملازمته. فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر. وقيل: إنه حج مع الرشيد، فجاء الرشيد يوماً في الطريق، وقد استلقى في ظل ميل، وهو يقول:
ألا يا طالبَ الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
فلما تصنعُ بالدنيا ... وظلُّ الميلِ يكفيكا
فعجب الرشيد من بديهته.
وعمر أبو عتاهية إلى أيام المأمون، وقد جاوز لسبعين، فقال:
أعينيَّ هلا تبكيانِ على عمري ... تناهبتِ الأيامُ عمري ولا أدري