طرقتكَ زائرةٌ فحيَّ خيالها
فأعجب به وقال: جزاك الله خيراً، فقلت: اشهدوا أن أمير المؤمنين دعا لي. ثم أنشدته:
أعادكَ من ذكر الأحبةِ عائدُ
فلما صرت إلى قولي:
أيادي بني العباسِ بيضٌ سوابغٌ ... على كلِّ قومٍ بادياتٌ عوائدُ
همُ يعدلونَ السمكَ من قبة الهدى ... كما يعدلُ البيتَ الحرامَ القواعدُ
كأنَّ أميرَ المؤمنينَ محمداً ... برأفتهِ بالناسِ، للناس والدُ
أشار بيده: امسك. فمسكت. ثم قال: يا بني العباس، هذا شاعركم المنقطع إليكم، فأعطوه ما يسره. فقلت: فداك أبي وأمي إذا علموا رأي امير المؤمنين في فذاك الفرض. فقال: إني فارض لك عليهم مالاً. ففرض على ابنه موسى بخمسة آلاف درهم، وعلى ابنه هارون مثلها، ثم فرض على القوم على أقدارهم، حتى فرض سبعة وثلاثين ألف درهم، والربيع يكتب، فاستكثر الربيع ذلك، فقال: ولك من الربيع مثل ذلك، فصار المال ستين الفاً. فدعوت وشكرت وقمت بأسر ما يكون، فقلت: هل لأمير المؤمنين أن يجعل هذه الصلة غير مكدرة سؤال غيره؟ قال: نعم، وكتب بها توقيعاً لا أحتاج فيه إلى سؤال أحد أو شفاعة. فخرجت، فلما صرت خلف الستر تبعني خادم ومعه منديل فيه أربعة أثواب من أفخر الثياب، وجبة وقميص من ملابسه الشريفة، وقال: ألبسوه وأعيدوه إلي. فلبست الثياب وعدت إليه. فلما رآني تبسم، ودعا بطيلسان، فنشر ووضع علي بين يديه، وأمر لي بعشرة من الخدم، وضيعة ساجية السواد، وخيل فبعت الضيعة لعيسى بن موسى بعشرين الف درهم وفرس مكمل العدة.
ولم يزل مروان بباب المهدي حتى هلك، فقال يرثيه:
لقد أصبحتْ تختالُ في كلِّ بلدةٍ ... بقبرِ أميرِ المؤمنينَ المقابرُ
أتتهُ التي ابتزتْ سليمان َملكهُ ... وألوتْ بذي القرنين منها البوادرُ
أتتهُ فغالتهُ المنايا، وعدلهُ ... ومعروفهُ في الشرقِ والغربِ ظاهرُ
فلما قام موسى الهادي ولده مدحه، وقال من جملة مدحه:
بسبعينَ الفاً شدَّ ظهري وراشني ... أبوكَ، وقد عاينتَ من ذاك مشهدا
وإني، أميرَ المؤمنينَ، لواثقٌ ... بأنْ لا أرى شربي لديكَ مصردا
فلما أنشده ذلك قال: ومن يبلغ مدى المهدي؟ ولكنا نبلغ رضاك.
فعاجلت موسى منيته قبل أن يعطي مروان جائزته. فلما مات رثاه، وهنأ هارون فقال:
أيا يومَ الخميسِ ملأتَ حزناً ... وتبريحاً قلوبَ المؤمنينا
خميسٌ كان أولهُ بكاءً ... وآخرهُ يسرُّ المهتدينا
لئنْ جاءَ الخميسُ بما كرهنا ... لقد جاءَ الخميسُ بما هوينا
أبو إسحاق ماتَ ضحىً، فمتنا ... وأمسنا بهارونٍ حيينا
وهذا معنى مستملح.
فلما قام هارون مدحه فأجزل صلته، ومضى إلى اليمامة وعاد، فأقام بباب الرشيد حتى مات سنة إحدى وثمانين، ودفن ببغداد في مقبرة نصر بن مالك. ومن صلات الرشيد له مائة ألف وألف درهم.
شهر مروان هذا في زامن المتوكل، وتقدم على نظرائه. وسبب ذلك أنه كان يسفه رأي العلويين، الذين يخرجون على بني العباس. ولم يمدح الواثق، وإنما المتوكل أرسل أحضره من اليمامة. ولما دخل على المتوكل أنشده قصيدته التي منها:
أنا ابنُ الذي اشجى عداكم بمدحه ... وما زاركمْ من شاعرٍ، بعدهُ، مثلي
طلبتمْ، بني البنتِ، التراثَ بأمكمْ ... وذاك لكم داعٍ إلى البتلِ والشكلِ
أبو طالبٍ أولى بكمْ من محمدٍ ... إذا نسبَ الأقوامُ، في الجدِّ والهزلِ
فلما فرغ من انشادها أمر المتوكل، فنثر عليه ثلاثمائة ألف دينار، وأمره بالجلوس، وأمر ولاة العهود الثلاثة: المنتصر والمعتز والمؤيد أن يلتقطوها فيجعلوها في حجره. وعقد له على اليمامة والبحرين وطريق مكة. وحسدته الشعراء على مكانه من المتوكل، وهجاه خلق عظيم واستبردوا شعره. فمن ذلك قول الشافعي:
كزَّ أبو السمط بأشعارهِ ... فصارَ، من إنشادهِ، ميتا
فمنْ أرادَ الموتَ مستصلحاً ... فليرو، من أشعارهِ، بيتا
وللجماز فيه:
رأينا البردَ مشتداً ... فسائلتُ عن القصهْ
فقالوا: إنما أنش ... دَ شعرُ ابنِ أبي حفصهْ
وهجاه البحتري وعلي بن الجهم، بسبب أنه كان يعرض بذكر علي وولديه عليهم السلام فمما هجاه به البحتري: