الينابيع التي ذكرناها سابقا، وما هداه إليه عقله وتفكره في التمييز يبن ما صح منها وما لا يصح، ثم تجلى له أنها نازلة من السماء، وأنها خطاب الخالق جلّ وعلا؛ بوساطة الناموس الأكبر، ملك الوحي جبريل- عليه السلام- الذي كان ينزل على سلفه من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- إلى غير ذلك من الأباطيل والتّرهات التي أرادوا بها تقريب فكرة «الوحي النفسي» وأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقيدة، وتشريع وآداب، فهي من ذات نفسه وعقله الباطن لا من شيء خارج عن نفسه، وهو الوحي عن الله جل وعلا.
والآن وبعد أن بسطت فكرة الماديين والملحدين في الوحي المحمدي وذكرت خلاصة المقدمات التي تذرعوا بها للوصول إلى ما يريدون سأكرّ عليها بالرد العلمي الذي يدعمه العقل السليم، والنقل الصحيح، والتاريخ الصادق، وإذا أبطلنا المقدمات، فقد بطل ما رتبوه عليها قطعا، وهي النتيجة التي ركبوا كل صعب وذلول في سبيلها.
وبعد إبطال المقدمات سأعرض بالرد على المثال الذي ذكروه وهو قصة «جان دارك» فأقول وبالله التوفيق والسداد.
إن المعروف الثابت الذي رواه كتاب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحب عمه أبا طالب في التجارة إلا مرة، وهو ابن تسع سنين وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وأن الراهب «بحيرى» لما رآه تظلله سحابة من الشمس، ورأى فيه بعض أمارات النبوة ذكر لعمه أنه سيكون له شأن، وحذره أن تناله اليهود بشرّ، ولم تذكر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع في صغره من بحيرى شيئا، أو تعلم منه شيئا من معارف أهل الكتاب، ولما صار رجلا وتاجر للسيدة خديجة في مالها ذهب إلى بلاد الشام ولم يعرف أنه جاوز مدينة (بصرى) ولا أنه اشتغل في هذه الأسفار بغير التجارة، ولا أنه اتصل بأحبار اليهود،