وَبِكِفَايَتِهِ، فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ: طَيَرَانُ الطَّائِرِ سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ يُلْتَقَطُ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا، فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ إلَى رِزْقِهِ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ طَيَرَانِهِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ، وَالْعَاقِلُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَثِيرًا.
وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا، وَتَرْكًا لَهَا، فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا، وَلَهَا طَلَبًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ فِي بَاطِنِهِ، وَظَاهِرِهِ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ