ولا يلبث محمد1 بن يحيى المهلبي الرباحي الجياني المتوفى سنة 353 للهجرة أن يفتتح عصر الاهتمام البالغ في موطنه بكتاب سيبويه، وكان قد ثقف الفلسفة والمنطق والكلام، ورحل إلى المشرق فلقي بمصر نحويها النابه أبا جعفر بن النحاس، وأخذ عنه كتاب سيبويه رواية، وعاد إلى قرطبة يفرغ له ولقراءته على الطلاب، شارحا له ومفسرا تفسيرا مبينا، تسعفه دقة نظره ومنطقه وقدرته على الاستنباط وتحليل العبارات والغوص على العلل. ولم يكن يكتفي بقراءته لطلابه، فقد كان يعقد لهم مجلسا في كل جمعة للمناظرة في مسائلة، ويقول الزبيدي في بيان مكانته في تاريخ النحو بالأندلس: "لم يكن عند مؤدبي العربية ولا عند غيرهم ممن عُني بالنحو كبير علم "بالعربية" حتى ورد محمد بن يحيى عليهم، وذلك أن المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة في تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها وتقريب المعاني لهم في ذلك. ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها والاعتلال لمسائلها، ثم كانوا لا ينظرون في إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا أبنية، ولا يجيبون في شيء منها، حتى نهج لهم سبيل النظر وأعلمهم بما عليه أهل هذا الشأن في المشرق من استقصاء الفن بوجوهه واستيفائه على حدوده, وأنهم بذلك استحقوا الرياسة". ويقول القفطي: "لما ورد محمد بن يحيى "على قرطبة" أخذ في التدقيق والاستنباط والاعتراض والجواب وطرد الفروع إلى الأصول، فاستفاد منه المعلمون طريقه، واعتمدوا ما سنَّه من ذلك".

وكان يعاصره في قرطبة أبو علي2 القالي البغدادي الذي نزل الأندلس في سنة 330 للهجرة لعهد عبد الرحمن الناصر وقاد فيها نهضة لغوية ونحوية خصبة، كان معوَّله فيها على قراءة ذخائر اللغة والشعر والنحو التي حملها معه من المشرق، وكان مما حمله كتاب سيبويه أخذه عن ابن درستويه عن المبرد، وكان يجنح إلى المذهب البصري وينافح عنه مناظرا مجادلا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015