أنهما بصريان حقا، وهما إنما يصوران بذلك نزوعهما الشديد تلقاء البصريين، أما بعد ذلك فإنهما ينهجان النهج القويم للمدرسة البغدادية القائم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية، مع فتح الأبواب للاجتهاد والخلوص إلى الآراء المبتكرة. وقد تداول هذه المدرسة جيلان: جيل أول كانت تغلب عليه النزعة الكوفية، وهو الذي يدور في كتابات ابن جني باسم البغداديين، من أمثال ابن كيسان، ثم جيل ثانٍ خَلَفَ هذا الجيل كانت تغلب عليه النزعة البصرية على نحو ما يلقانا عند الزجاجي, ثم أبي علي الفارسي, وابن جني مؤصل علم التصريف وواضع قوانينه الكلية.
وانتقلت أبحث في المدرسة الأندلسية، متتبعا نشاطها النحوي طوال العصور المتعاقبة، ولاحظت استظهار نحاتها منذ القرن الخامس الهجري لآراء أئمة النحو السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، مع الاجتهاد الواسع في الفروع ومع وفرة الاستنباطات وكثرة التعليلات والاحتجاجات. ولا نكاد ننتقل من جيل إلى جيل حتى تلقانا مجموعة من الأئمة، وكل إمام منهم يثير من الخواطر والآراء ما لم يسبقه إليه سابق من النحاة المجلين، حتى لنرى ابن مضاء القرطبي يريد أن يصوغ النحو صياغة جديدة تخلو من نظرية العوامل والمعمولات المذكورة والمقدرة ومن العلل والأقيسة المعقدة. وأكبر أئمتهم -على الإطلاق- ابن مالك, وقد رسمت في إجمالٍ آراءه ومنهجه، وعرضت لخالفيه من نحاة الأندلس وخاصة أبا حيان.
وبحثت أخيرا في المدرسة المصرية، ملاحظا أنها كانت في أول نشأتها شديدة الاقتداء بالمدرسة البصرية، ثم أخذت تمزج -منذ القرن الرابع الهجري- بين آراء البصريين والكوفيين، وضمت سريعا إلى تلك الآراء آراء البغداديين، غير أنها لم تونق ولم تزدهر إلا منذ العصر الأيوبي، وسرعان ما تكامل ازدهارها في العصر المملوكي بما أتاحه لها ابن هشام من مَلَكاَته العقلية النادرة ومن إحاطته بآراء النحاة السالفين له, على اختلاف مدارسهم وأعصارهم وبلدانهم، ومن قدرته البارعة في مناقشة تلك الآراء، مع ما امتاز به من طرافة التحليل والاستنباط