وضوح. وهو بذلك بغدادي ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالاتباع، وإن غلب عليه النزوع إلى المذهب البصري؛ لأنه كان المذهب الذي حُرِّرت أصوله وفروعه وعلله.

وكان عقل أبي علي من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جني تلميذه، حين ألم بالموصل، من جميع أقطارها، وهو يكثر من ذكر آرائه في كتابه الخصائص وغيره، حتى ليبدو كأنه كان كنزا سائلا بمسائل اللغة والنحو وما يجري فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة والعلل، وقد استضاء به في كثير من الأصول الكلية التي حررها في كتابه الخصائص، فمن ذلك "السلب" يقول: "نبهنا أبو علي -رحمه الله- من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه؛ لتتعجب من حسن الصنعة فيه"1. ويأخذ في بيان أن الأصل في الفعل الإثبات مثل: قام فهي لإثبات القيام، ثم يقول: إنهم قد استعملوا ألفاظا في السلب ابتداء مثل مادة "عجم" فهي للإبهام، ولتوضيح ذلك يعرضها في استعمالاتها المختلفة، ثم يبين أنهم قد يدخلون الهمزة على الفعل لإفادة السلب مثل: أشكيت الرجل, إذا زُلت له عما يشكوه، وقد يضعفون ثانيه لنفس الغاية مثل: مرضت الرجل أي: داويته من مرضه، وقد يأتي السلب بدون زيادة. ويفيض ابن جني نقلا عن أستاذه في أمثلة كثيرة. ونراه ينقل عنه في باب تعارض القياس والسماع أمثلة خالف فيها العرب القياس, مبينا أن ما استقر على لسانهم هو الأساس2. وبالمثل ينقل عنه في باب الاستحسان وهو ما تكون علته ضعيفة غير مستحكمة مثل قولهم: رجل غديان والقياس: غدوان لأنه من قولهم: عدوت3. ومن ذلك باب نقض المراتب إذا عرض عارض كتقديم المفعول به على الفاعل4. ومن ذلك باب تلاقي اللغة، يقول: "هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئا إلا لأبي علي رحمه الله"5, ويذكر مما جاء على لسانه منه: أجمع وجمعاء وأكتع وكتعاء وأخواتهما, فإن هذه الصيغة لا تأتي إلا صفة، بينما هي في تلك الأمثلة معارف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015