فقد استخدموا القياس أحيانا بدون استناد إلى أي سماع، ونضرب لذلك مثلا قياسهم العطف بلكن في الإيجاب على العطف ببل في مثل: "قام زيد بل عمرو", فقد طبقوا ذلك على لكن وأجازوا: "قام زيد لكن عمرو" بدون أي سماع عن العرب، يجيز لهم هذا القياس1.

وربما كان من أهم ما يدل على أنهم كانوا يرفضون السماع أحيانا؛ وبالتالي يرفضون ما يُبنى عليه من قواعد وأحكام, أنهم رفضوا الاعتداد بما رواه سيبويه في الكتاب من إعمال أسماء المبالغة في أقوال العرب الفصحاء وأشعارهم، فقد روى قولهم في الاختيار: "أما العسلَ فأنا شرَّاب" بنصب العسل مفعولا به لشراب، كما روى طائفة من الأشعار، عملت فيها صيغ: فعول ومفعال وفعيل وفعل، وعلى الرغم من ذلك كان الكسائي والفراء ينكران عمل هذه الأسماء محتجين هم وأصحابهم بأنها فرع عن أسماء الأفعال, وأسماء الأفعال فرع عن الفعل المضارع؛ ولذلك ضعف عملها2. ومما رفضوا فيه السماع لا سماع أبيات قد تكون شاذة، بل سماع إحدى القراءات إعمال إن المخففة من الثقيلة النصب، فقد زعموا أن الثقيلة إنما عملت لشبهها بالفعل الماضي في بنائها على ثلاثة أحرف وأنها مبنية على الفتح مثله، فإذا خففت زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها، ولم يلتفتوا لاحتجاج البصريين عليهم بقراءة نافع وابن كثير، وهي من القراءات السبع: "وإِنْ كُلًّا لما ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم"3. وكأنما حجبهم التعليل المنطقي الخالص، سواء في هذه المسألة أو في سابقتها، عن منطق اللغة وتصاريف عباراتها الفصيحة السليمة.

وفي هذا ونحوه ما يردّ أقوى رد على من يزعمون أن الكوفيين كانوا أكثر بصرا بروح اللغة وأدق حسا, وأنهم لم يخضعوا -مثل البصريين- للمنطق والفلسفة، فقد كانوا يخضعون بدورهم لهما، بل ربما زادوا عنهم خضوعا أحيانا على نحو ما تصور ذلك المسألتان السالفتان. ومعروف أن الفراء، وهو الواضع الحقيقي للنحو الكوفي، كان معتزليا ومتكلما متفلسفا، بل قال المترجمون له: إنه كان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015