عنده السماع أولا؛ إذ القياس إنما يستمد منه, ويعتمد عليه، من ذلك أن القياس في صيغة مفعول أن تحذف واوها إذا كانت مشتقة من فعل أجوف مثل مقول، ولكن سُمع عن بني تميم كثيرا إثبات الواو في الصيغة, مثل مقوول ومصوون, فجعل المبرد ذلك قياسا مطردا، فيقال: مبيوع على نحو ما يشيع في العامية المصرية1. ونراه دقيقا في استنباط القاعدة المقيسة، يشهد لذلك حكمه باطراد القياس في باب المفعول معه في كل صيغة يكون فيها ما قبل الواو سببا في تاليها مثل: جاء الشتاء وملابس الصوف، فالشتاء سبب في استخدام ملابس الصوف؛ ولذلك تنصب الملابس مفعولا معه، ولا تعطف2. وكان يعنى كثيرا بقياس الشبه على نحو ما يلقانا عنده في منع تقدم خبر ليس الناقصة الجامدة عليها, قياسا على فعل التعجب, وأنه لا يصح تقدم معموله عليه، وكذلك الأفعال الجامدة: عسى وبئس ونعم، فكلها لا تتقدمها معمولاتها لعدم تصرفها3.
وتدل كتابات المبرد المختلفة على أنه كان دقيق الحس اللغوي دقة شديدة، فأودع كتبه ومصنفاته كثيرا من الملاحظات اللغوية والتعبيرية التي تدل على رهافة حسه، من ذلك أنه كان يرى أن عبارة: "عبد الله قائم" تستخدم في موطن لا تستخدم فيه عبارتا: "إن عبد الله قائم" و"إن عبد الله لقائم" فالعبارة الأولى تعبر عن مجرد الإخبار بقيام عبد الله، بينما العبارة الثانية تستخدم للإجابة عن سؤال سائل تأكيدا له، أما العبارة الثالثة فتستخدم في خطاب من ينكر قيام زيد ويبالغ في إنكاره، ومن أجل ذلك تؤكد له العبارة بمؤكِّدين4. وسئل عن الفرق بين العبارتين: "ضربت زيدا"، و"زيد ضربته" فقال: إنك إذا قلت: ضربت زيدا، فإنما أردت أن تخبر عن نفسك وتثبت أين وقع فعلك، وإذا قلت: زيد ضربته, فإنما أردت أن تخبر عن زيد.
وإذا كنا ميزنا في تلاميذ الأخفش وسيبويه وأصحابهما بين من عني منهم باللغة, وبين من عني منهم بالنحو والتصريف, فكذلك الشأن في تلاميذ المبرد، وممن اشتهروا منهم في المباحث اللغوية أبو بكر بن دُرَيْد، واشتهر