قَالَ الْمُهَلَّبُ:
فَصَحَّ بِهَذَا الاعْتِبَار أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الكِرَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ لِلْغَرَرِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَلِاسْتِدَامَةِ الْمُكَارَمَةِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْغَرَرُ وَلَمْ تَسْمَحْ النُّفُوسُ بِالْمُكَارَمَةِ فِي الْمَنِيحَةِ جَازَ كِرَاؤُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَبِالنَّصِيبِ مِنْ الإِصَابَةِ إِذْ لاَ غَرَرَ فِيهِ كَمَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ كُلِّ بَيْتِ هِجْرَةٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْ الْخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ وَهُمْ الْقُرُونُ الْمَمْدُوحَةِ، خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
لَكِنَّ مَالِكًا رَضِيَ الله عَنْهُ لَمَّا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْجُهُ أَحَادِيثِ رَافِعٍ كَمَا أَشْكَلَتْ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَأَى أَنْ يَقْتَدِي بِهِ رَضِيَ الله عَنْهُ, وَيُلْزِم النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ مَا الْتَزَمَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ بَنِيهِ، فَكَانَ سَالِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ بَنِيهِ يُكْرِي الأَرْضَ وَلاَ يَنْهَاهُمْ.
ثُمَّ زَادَ مَالِكٌ بِأَنْ َخَشِيَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَابَنَةِ فَمَنَعَ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِشَيْءٍ مَمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَفِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أُِسْوَةٌ فِي الْعَمَلِ بَالنَّصِيبِ، وَفِي وَرَعِ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُما خَيْرُ قُدْوَةٍ, وَالله يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ لَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى (?).