وفي «الجامع الصغير» : جارية لرجل قالت لرجل آخر: بعثني إليك مولاي هدية وسعه أن يأخذها بناءً على ما قلنا: إن إقرار الواحد العدل في باب المعاملات حجة؛ حراً كان أو عبداً.
يجب أن تعلم بأن العمل بغالب الرأي جائز في باب الديانات وفي باب المعاملات، وقد ذكرنا ذلك في الفصل المتقدم، وكذلك العمل بغالب الرأي في الدماء جائز، حتى إن من دخل على رجل منزله شاهراً سيفه، ولا يدري صاحب المنزل ما حاله أهارب هو من اللصوص والتجأ إلى داره، أو لص دخل عليه ليأخذ ماله، ويقتله إن منعه، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأنه استوى دليل الحظر، ودليل الإباحة؛ لأن الدخول قد يكون للالتجاء، وإنه يحرم التعرض له، وقد يكون لأخذ المال وقتل صاحب البيت إن منعه، وإنه يفيد إباحة التعرض له، فلابد من ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وذلك بالتحري، فتحرى في ذلك، وعمل بتحريه، فإن وقع تحريه؛ أنه دخل منزله للالتجاء لا يقتل، وإن وقع تحريه أنه لص دخل منزله ليأخذ ماله ويقتله وخاف أنه إن زجره، أو صاح به أن يبادر فيقتله، فلا بأس بقتله.
وقالوا فيمن استقبل المسلمين جماعة في دار الحرب، فأشكل على المسلمين حالهم أنهم عدو أو مسلمون، فإنهم يتحرون؛ لأنه استوى دليل الحظر والإباحة؛ لأنه قد يكون في دار الحرب أهل الإسلام دخلوا فيها للتجارة، وقد يكون فيها أهل الحرب، فيتحرى.
وقد روى الفقيه أبو جعفر الهندواني، والحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيمن رأى رجلاً في داره شاهراً سيفه، فوقع في غالب رأيه أنه يريد ماله، فإنه يحل له قتله من غير أن يصيح، وإن كان يعلم أنه لا يريد نفسه، فهذه الرواية إشارة إلى أنه متى وقع تحريه على أنه قصد الشر إنه يباح قتله، ولا يلزمه التحري مرة أخرى ليعلم أنه هل يزجر بدون القتل أو لا يزجر، وأشار محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان إلى أن بعدما وقع في غالب رأيه أنه دخل للشر؛ أنه يتحرى ثانياً ليعلم أنه يزجر بدون القتل، أو لا يزجر؛ لأنه قال: وخاف إن زجره أو صاح به أن يبادر فيقتله حل له أن يقتله، فإنما أباح له القتل بشرط أن يعلم أنه يبادر بقتله متى صاح به وزجره.
وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قصد الشر قد تحقق منه، فمتى أمرناه بالتحري مرة أخرى ربما لا يمكنه دفع ما قصد من الشر، فيباح قتله.
وجه ما ذكره محمد رحمه الله: أن الشر واجب الدفع، فإذا أمكنه الدفع بما دون القتل لا يميل إلى القتل، ولكن بعدما ثبت الشر؛ الحالة محتملة بين أن يدفع الشر بقتل أو بما دونه فيتحرى.