يطلب من حيث العدد؛ لأنه بالعدد يدخل في حد العيان، أو يقرب منه، وبكونه حجة في حق الأحكام لا يدخل في حد العيان ولا يقرب منه، فكان الترجيح حجة في الأحكام بزيادة العدد أولى، وبعد الاستواء في العدد يطلب الترجيح بكونه حجة في الأحكام لا بالتحري؛ لأنه صار حجة في حق الأحكام بالشرع؛ لا بمجرد الظن، وبعد الاستواء في الحجة في الأحكام يطلب الترجيح بالتحري، فعلى هذا إذا كان المخبر من أحد الجانبين حرين عدلين، ومن الجانب الآخر أربعة، يترجح خبر الأربعة، وكذلك إذا أخبر بأحد الأمرين رجلان، وبالآخر رجل وامرأتان يؤخذ بخبر رجل وامرأتين لما فيه من زيادة العدد، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وإذا كان في يدي رجل طعام أو شراب أذن لغيره في أكله أو شربه، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، والذي في يديه يكذبه، ويقول: إنه ملكي، وصاحب اليد متهم غير ثقة، فأحب إلي أن يتنزه، وإن أكله أو شربه أو توضأ به فلا بأس؛ لأن قول الفاسق بمقابلة قول العدل غير معتبر، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو عدم قوله كان قول الواحد حجة في حق التنزه دون الحكم، وكذا ههنا.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان صاحب اليد ثقة عدلاً، وقد أخبر أنه ملكه لم يغصبه من أحد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا يتنزه؛ لأن الخبرين تساقطا بحكم التعارض، فبقيت الإباحة الأصلية بخلاف ما إذا كان فاسقاً، وغيره من المشايخ قال: يتنزه وهو الصحيح؛ لأن صاحب اليد بخبره يشهد لنفسه؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بقول الواحد، فيمتنع الناس عن شرائه تارة فهو كقوله: أي مالك يرغب الناس في الشراء، فكان في معنى الشاهد لنفسه، فلا يعارض خبر ذي اليد خبر المخبر عن الغصب، فبقي الغصب في حق التنزه (78أ2) ثابتاً كما كان.m
ويقع الفرق على قول هؤلاء المشايخ بين هذه المسألة، وبين مسألة ذكرناها قبل هذا أن جماعة يأكلون الطعام ويشربون الشراب، فدخل عليهم مسلم، فدعوه إلى الأكل، فقال له عدل: إنه ذبيحة مجوسي، وقال واحد عدل من الآكلين: إنه حلال، فإنه يتحرى، فإن لم يقع تحريه على شيء لا بأس بأكله، ولم يذكر التنزه.
والفرق: أن هناك صاحب اليد بقوله: هذا مباح فكله؛ ليس يجر إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرة، فكان خبر الخارج وخبر ذي اليد في حق السامع على السواء؛ أما ههنا صاحب اليد بخبره يدفع عن نفسه مضرة؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بخبر العدل الخارج، وذلك يضر بصاحب اليد؛ لأن السامع يتنزه عن شرائه على ما ذكرها.
فعلى هذا إذا أراد أن يشتري لحماً، فقال له خارج عدل: لا تشتره، فإنه ذبيحة مجوسي، وقال القصاب: اشتره فإنه ذبيحة مسلم، والقصاب عدل، فإنه تزول الكراهة بقول القصاب على قول الفقيه أبي جعفر، وعلى قول غيره من المشايخ لا تزول.