فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَاصِي الْمَذْكُورَةِ هِيَ الْمُحَارَبَةُ، فَإِذْ لَا شَكَّ فِي هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَالْبَاغِي، فَهُمَا جَمِيعًا مُقَاتِلَانِ، الْمُقَاتَلَةُ هِيَ الْمُحَارَبَةُ فِي اللُّغَةِ: فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ، فَوَجَدْنَا " الْبَاغِي " قَدْ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، بِأَنْ يُقَاتَلَ حَتَّى يَفِيءَ فَقَطْ، فَيُصْلَحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ الْبَاغِي عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارَبِينَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا " قَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَمُخِيفُ السَّبِيلِ " هَذَا مُفْسِدٌ فِي الْأَرْضِ بِيَقِينٍ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ النَّاسِ: إنَّهُ هُوَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ، وَقَدْ بَطَلَ - كَمَا قَدَّمْنَا - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي: إنَّهُ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، إلَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ الْمُخِيفِ فِيهَا، أَوْ فِي اللِّصِّ - فَصَحَّ أَنَّ مُخِيفَ السَّبِيلِ الْمُفْسِدَ فِيهَا: هُوَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ. وَبَقِيَ أَمْرُ اللِّصِّ فَنَظَرْنَا فِيهِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - فَوَجَدْنَاهُ إنْ دَخَلَ مُسْتَخْفِيًا لِيَسْرِقَ، أَوْ لِيَزْنِيَ، أَوْ لِيَقْتُلَ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا فَإِنَّمَا هُوَ سَارِقٌ، عَلَيْهِ مَا عَلَى السَّارِقِ، لَا مَا عَلَى الْمُحَارِبِ بِلَا خِلَافٍ.
أَوْ إنَّمَا هُوَ زَانٍ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الزَّانِي، لَا مَا عَلَى الْمُحَارِبِ بِلَا خِلَافٍ. أَوْ إنَّمَا هُوَ قَاتِلٌ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَاتِلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فِيمَنْ قَتَلَ عَمْدًا - وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِي هَذَا قَوْمٌ خِلَافًا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، فَإِنْ اُشْتُهِرَ أَمْرُهُ فَفَرَّ وَأَخَذَ، فَلَيْسَ مُحَارِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَارِبْ أَحَدًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ، لَكِنْ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ مُنْكَرًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا التَّعْزِيرُ - وَإِنْ دَافَعَ وَكَابَرَ: فَهُوَ مُحَارِبٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضَ، فَلَهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ، أَوْ مَنْ قَالَ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمُدُنِ إلَّا لَيْلًا: فَقَوْلَانِ فَاسِدَانِ، وَدَعْوَتَانِ سَاقِطَتَانِ، بِلَا بُرْهَانٍ، لَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا سَقِيمَةٍ، وَلَا مِنْ إجْمَاعٍ، وَلَا مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَلَا مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَمَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هَانَ عِنْدَهُ الْكَذِبُ عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، فَيَقُولُ: مَنْ حَارَبَ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ اسْمُ مُحَارِبٍ