قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَتُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ أَنَّ الرَّضَاعَةَ الَّتِي تَتِمُّ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، أَوْ بِتَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، إذَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلرَّضِيعِ أَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ، وَاَلَّتِي يُجْبَرُ عَلَيْهَا الْأَبَوَانِ أَحَبَّا أَمْ كَرِهَا.
وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] .
فَأَمَرَ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ بِإِرْضَاعِ الْمَوْلُودِ عَامَيْنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَحْرِيمُ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّ التَّحْرِيمَ يَنْقَطِعُ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ.
وَكَانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى فِي حَوْلَيْنِ وَلَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ زَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ الْأُخَرِ، وَعُمُومًا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِنَصٍّ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَهُ لَا بِظَنٍّ، وَلَا بِمُحْتَمَلٍ لَا بَيَانَ فِيهِ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ قَدْ جَاءَتْ مَجِيءَ التَّوَاتُرِ رَوَاهَا نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَوْرَدْنَا، وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَرَوَاهُ مِنْ التَّابِعِينَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَحُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ.
وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، وَيَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ.
وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَشُعْبَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَمَعْمَرٌ، وَغَيْرُهُمْ.
وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ: الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ، فَهُوَ نَقْلُ كَافَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ مُؤَالِفٌ وَلَا مُخَالِفٌ فِي صِحَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: هُوَ خَاصٌّ لِسَالِمٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَعْلَمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا أَنَّهُ ظَنٌّ مِمَّنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -.