وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ إنْ كَانَ لِكُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا كَسْبٌ يَقُومُ بِهِ بِنَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا مِنْ الْكَسْبِ - فَلَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَتِهِمْ حِينَئِذٍ إلَّا الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَالزَّوْجَاتُ، فَقَطْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَصُونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24] .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَلَيْسَ فِي الْعُقُوقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ غَنِيًّا ذَا حَالٍ وَيَتْرُكَ أَبَاهُ، أَوْ جَدَّهُ يَكْنُسُ الْكَنَفَ، أَوْ يَسُوسُ الدَّوَابَّ، وَيَكْنُسُ الزِّبْلَ، أَوْ يَحْجُمُ، أَوْ يَغْسِلُ الثِّيَابَ لِلنَّاسِ، أَوْ يُوقِدُ فِي الْحَمَّامِ - وَيَدَعُ أُمَّهُ أَوْ جَدَّتَهُ تَخْدِمُ النَّاسَ، وَتَسْقِي الْمَاءَ فِي الطُّرُقِ - فَمَا خَفَضَ لَهُمَا جُنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ مَنْ فَعَلٌ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي النُّفُوسِ كُلِّهَا اخْتِلَافَ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ إلَى مَنْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَجَاءَتْ النُّصُوصُ بِبَيَانِ ذَلِكَ.
فَالْإِحْسَانُ إلَى الْأَبَوَيْنِ: الصَّبْرُ لِجَفَائِهِمَا، وَتَوْقِيرُهُمَا، وَتَعْظِيمُهُمَا، وَطَاعَتُهُمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا بِمَعْصِيَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] فَهُمَا وَإِنْ أَمَرَا بِالشِّرْكِ فَوَاجِبٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصْحَبَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كُلَّ مَا قُلْنَا.
وَالْإِحْسَانُ إلَى ذِي الْقُرْبَى: أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ الْأَذَى، وَأَنْ يُكْرِمَهُمْ وَيَحُوطَهُمْ، وَيَقُومَ فِي أُمُورِهِمْ، وَأَنْ لَا يُسْلِمَهُمْ إلَى ضَرَرٍ.