المحلي بالاثار (صفحة 3660)

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، ذَكَرَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِهِ فِي " أَخْبَارِ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ " فَلَوْ احْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكَانُوا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا فِي نَصِّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] وَلَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، إلَّا أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى قِيَاسٍ فِي الْأَرْضِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَسَامَةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ أَيْضًا إحْدَى فَضَائِحِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ -: فَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَخَالَفُوهُ جُمْلَةً.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ: فَخَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ إيجَابِ الْقَوَدِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ قَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُ فِيمَا فِيهِ وَأَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِنْهُ أَثَرٌ أَصْلًا.

وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِينَ أَوَّلًا خَمْسِينَ يَمِينًا - بِخِلَافِ جَمِيعِ الدَّعَاوَى - ثُمَّ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ - بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ - فَمِنْ أَيْنَ رَأَوْا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ ضِدَّهُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا.

فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ فِي تَبْدِيَةِ الْمُدَّعِي فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى.

وَأَنْ يَجْعَلُوا الْأَيْمَانَ فِي كُلِّ دَعْوَى خَمْسِينَ يَمِينًا، فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ، وَخِلَافِ السُّنَنِ، وَعَكْسِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ النَّظَرِ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟

وَأَمَّا خَبَرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: فَحَقٌّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ: بَاطِلٌ، لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا مَعْقُولٌ، وَقَدْ يَنْكُلُ الْمَرْءُ عَنْ الْيَمِينِ تَصَاوُنًا وَخَوْفَ الشُّهْرَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ اسْتَجَازَ أَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ بِالْبَاطِلِ فَلَا يُنْكَرُ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا.

وَإِنَّمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ عَلَى الْمُنْكِرِ يَمِينٌ، فَلَمَّا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ: كَانَ بَعْدُ حُكْمِ طَلَبِهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ يَمِينٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَحَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلطَّالِبِ بِيَمِينِهِ ابْتِدَاءً لَا رَدًّا لِلْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَقَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ، وَإِذَا أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ فَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، وَإِذْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ: فَالْآنَ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لَا أَنَّ هَاهُنَا رَدَّ يَمِينٍ أَصْلًا - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015