المحلي بالاثار (صفحة 3650)

قَدْ خَالَفُوهُ فِي تَحْلِيفِهِ مُقِيمَ الْبَيِّنَةِ مَعَ بَيِّنَتِهِ، وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ شُرَيْحٍ حُجَّةً فِي مَوْضِعٍ وَغَيْرَ حُجَّةٍ فِي آخَرَ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ - فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ عِلْمِ الطَّالِبِ بِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً وَبَيْنَ جَهْلِهِ بِذَلِكَ - وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا قَوْلُ مُتَقَدِّمٍ، وَلَا قِيَاسٌ.

فَإِنْ قَالُوا: إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً ثُمَّ أَحْلَفَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ بَيِّنَتَهُ.

فَقُلْنَا: مَا فَعَلَ وَلَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْقَطَهَا.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَأَحْلَفَ خَصْمَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ بَيِّنَتَهُ أَيْضًا وَلَا فَرْقَ.

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فِي قَضَائِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ خَيْرٌ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، فَقَوْلٌ صَحِيحٌ لَوْ أَيْقَنَّا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَادِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ فَاجِرَةٌ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُوقِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ صَادِقَةٌ، وَلَا أَنَّ الْيَمِينَ فَاجِرَةٌ، فَلَيْسَتْ الشَّهَادَةُ أَوْلَى مِنْ الْيَمِينِ، إذْ الصِّدْقُ فِي كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ وَالْكَذِبُ فِي كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ، إلَّا بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ تَأْمُرُنَا بِإِنْفَاذِ الْبَيِّنَةِ؛ وَإِنْ حَلَفَ الْمُنْكِرُ وَلَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ أَصْلًا - فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ، بَلْ وَجَدْنَا النَّصَّ بِمِثْلِ قَوْلِنَا - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - جَمِيعًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ نا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ «عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي أَرْضٍ فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلطَّالِبِ: بَيِّنَتُكَ؟ قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، قَالَ: يَمِينُهُ قَالَ: إذَا يَذْهَبُ بِهَا - يَعْنِي بِمَا لِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ لَكَ إلَّا ذَلِكَ»

" فَنَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ إلَّا بَيِّنَتُهُ أَوْ يَمِينُ الْمَطْلُوبِ - فَصَحَّ يَقِينًا: أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِيَقِينٍ

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّكُمْ تَحْكُمُونَ لِلطَّالِبِ بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّوَاتُرِ، وَبِعِلْمِ الْحَاكِمِ وَبِإِقْرَارِهِ.

قُلْنَا: نَعَمْ، وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ، لَكِنَّهُ بِيَقِينِ الْحَقِّ، وَيَقِينُ الْحَقِّ فُرِضَ إنْفَاذُهُ، وَلَيْسَتْ شَهَادَةُ الْعُدُولِ كَذَلِكَ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ، أَوْ مُغَفَّلِينَ، وَلَوْلَا النَّصُّ بِقَبُولِهِمْ وَبِالْيَمِينِ مَا حَكَمْنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ يَقِينِ الْعِلْمِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015