مَطْبُوعًا أَوْ مُدَبِّرًا مَقْهُورًا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُحْدَثَةً لَكَانَتْ وَلَا بُدَّ إمَّا مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى وَإِمَّا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ أَوْضَحْنَا آنِفًا وُجُوبَ كَوْنِ كُلِّ شَيْءٍ مُحْدَثٍ مَخْلُوقًا، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً وَجَبَ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، فَإِنْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى وَجَبَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا أَبَدًا، وَهَذَا يُوجِبُ وُجُوبَ مُحْدِثِينَ لَا نِهَايَةَ لِعَدَدِهِمْ. وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَبِأَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ إلَى الْفِعْلِ فَقَدْ حَصَرَهُ الْعَدَدُ ضَرُورَةً بِمِسَاحَتِهِ أَوْ بِزَمَانِهِ وَلَا بُدَّ، وَكُلُّ مَا حَصَرَهُ الْعَدَدُ فَهُوَ مُتَنَاهٍ. فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ خُلِقَتْ الْعِلَّةُ لَا لِعِلَّةٍ. سَأَلُوا: مِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ لِعِلَّةٍ وَيَخْلُقَ الْعِلَّةَ لَا لِعِلَّةٍ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ.
5 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ النَّفْسَ مَخْلُوقَةٌ. بُرْهَانُ هَذَا: أَنَّنَا نَجِدُ الْجِسْمَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ لَا يَحُسُّ شَيْئًا وَأَنَّ الْمَرْءَ إذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَا فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَخَلَّى عَنْ الْجَسَدِ كَانَ أَصَحَّ لِفَهْمِهِ وَأَقْوَى لِإِدْرَاكِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَسَّاسَ الْعَالِمَ الذَّاكِرَ هُوَ شَيْءٌ غَيْرُ الْجَسَدِ وَنَجِدُ الْجَسَدَ إذَا تَخَلَّى مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ وَلَا حِسَّ لَهُ وَلَا فَهْمَ إمَّا بِمَوْتٍ وَإِمَّا بِإِغْمَاءٍ وَإِمَّا بِنَوْمٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَّاسَ الذَّاكِرَ هُوَ غَيْرُ الْجَسَدِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ نَفْسًا وَرُوحًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فَكَانَتْ النُّفُوسُ كَمَا نَصَّ تَعَالَى كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهَا نَفْسًا خَبِيثَةً وَأُخْرَى طَيِّبَةً، وَنَفْسًا ذَاتَ شَجَاعَةٍ وَأُخْرَى ذَاتَ جُبْنٍ، وَأُخْرَى عَالِمَةً وَأُخْرَى جَاهِلَةً، فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ لِكُلِّ حَيٍّ نَفْسًا غَيْرَ نَفْسِ غَيْرِهِ، فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ وَكَانَتْ النُّفُوسُ كَثِيرَةً مُرَكَّبَةً مِنْ جَوْهَرِهَا وَصِفَاتِهَا، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ، وَهِيَ مَا لَمْ يَنْفَكَّ قَطُّ مِنْ زَمَانٍ وَعَدَدٍ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ مُرَكَّبَةٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُرَكَّبٍ مَخْلُوقٌ. وَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِمَّا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَقَدْ خَالَفَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] وَخَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَمَا قَامَ بِهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ.
6 - مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ الرُّوحُ نَفْسُهُ، بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ كَمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ هَهُنَا شَيْئًا مُدَبِّرًا لِلْجَسَدِ هِيَ الْحَيُّ الْحَسَّاسُ الْمُخَاطَبُ، وَلَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ قَطُّ بِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ، فَكَانَ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ قَدْ زَعَمَ بِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ وَقَالَ مَا لَا بُرْهَانَ لَهُ