فَقُلْنَا: نَعَمْ، بِلَا شَكٍّ، وَذَلِكَ التَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ وَلَا بُدَّ، وَالتَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ أَيْضًا تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ وَلَا بُدَّ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ التَّفَرُّقَ الْمُرَاعَى فِيمَا يَحْرُمُ بِهِ الصَّرْفُ أَوْ يَصِحُّ إنَّمَا هُوَ تَفَرُّقُ الْأَبْدَانِ، فَهَلَّا قُلْتُمْ عَلَى هَذَا هَهُنَا: إنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ أَيْضًا تَفَرُّقُ الْأَبْدَانِ، لَوْلَا التَّحَكُّمُ الْبَارِدُ حَيْثُ تَهْوُونَ.
وَمَوَّهُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
فَأَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ بَعْدَ التَّرَاضِي، قَالُوا: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الَّذِي أَتَانَا بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِهِ نَدْرِي: مَا هِيَ التِّجَارَةُ الْمُبَاحَةُ لَنَا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ التَّرَاضِي النَّاقِلُ لِلْمِلْكِ مِنْ التَّرَاضِي الَّذِي لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ؟ وَلَوْلَاهُ لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا: أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بَيْعًا، وَلَا هُوَ تِجَارَةً، وَلَا هُوَ تَرَاضِيًا وَلَا يَنْقُلُ مِلْكًا إلَّا حَتَّى يَسْتَضِيفَ إلَيْهِ التَّفَرُّقَ عَنْ مَوْضِعِهِمَا، أَوْ التَّخْيِيرَ، فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ، وَالتِّجَارَةُ، وَالتَّرَاضِي، لَا مَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ بِآرَائِهِمْ بِلَا بُرْهَانٍ، لَكِنْ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَهَذَا حَقٌّ إلَّا أَنَّ الَّذِي أَمَرَنَا بِهَذَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُوَ تَعَالَى الْآمِرُ لِرَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُخْبِرَنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعَاقُدُ وَلَا يَتِمُّ، وَلَا يَكُونُ عَقْدًا إلَّا بِالتَّفَرُّقِ عَنْ مَوْضِعِهِمَا أَوْ بِأَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْعَقْدِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَقْدٍ عَقَدَهُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ حَرَامٌ الْوَفَاءُ بِهَا، كَمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ.
نَعَمْ، وَأَكْثَرُ الْعُقُودِ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا، كَمَنْ عَقَدَ أَنْ يَشْتَرِيَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ، أَوْ أَنْ يُغَنِّيَ، أَوْ أَنْ يَزْفِنَ أَوْ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا.
فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ أَصْلًا، إلَّا عَقْدًا أَتَى النَّصُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ بِاسْمِهِ