فَفِي هَذَا أَنَّ آخِرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ مَاتَ كَانَ إعْطَاءَ الْأَرْضِ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الزَّرْعِ وَمِنْ الثَّمَرِ وَمِنْ الشَّجَرِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ ج وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَهُمْ، فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَنْ تُكْرَى الْأَرْضُ أَوْ يُؤْخَذُ لَهَا أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ إعْطَاءِ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ صَحَّ، فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ لَقُلْنَا: لَيْسَ نَسْخًا، لَكِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَمَا قَطَعْنَا بِالنَّسْخِ، لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ آخِرُ عَمَلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَصَحَّ أَنَّهُ نَسْخٌ صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَبَقِيَ النَّهْيُ عَنْ الْإِجَارَةِ جُمْلَةً بِحَسَبِهِ، إذْ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ وَلَا يُخَصِّصُهُ أَلْبَتَّةَ إلَّا بِالْكَذِبِ الْبَحْتِ، أَوْ الظَّنِّ السَّاقِطِ الَّذِي لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُؤْخَذَ لِلْأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَعَنْ أَنْ تُكْرَى بِثُلُثٍ أَوْ بِرُبُعٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ بِالنِّصْفِ فَأَجِيزُوا إعْطَاءَهَا بِالنِّصْفِ خَاصَّةً وَامْنَعُوا مِنْ إعْطَائِهَا بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؟ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَبَاحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إعْطَاءَهَا بِالنِّصْفِ لَهُمْ وَالنِّصْفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ، وَالْمُشَاهَدَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ مِمَّا دُونَ النِّصْفِ دَاخِلٌ فِي النِّصْفِ، فَقَدْ أَعْطَاهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرُّبُعِ وَزِيَادَةٍ وَبِالثُّلُثِ وَزِيَادَةٍ، فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ بِلَا شَكٍّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِمَّنْ أَجَازَ إعْطَاءَ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا -: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نا ابْنُ زَائِدَةَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ» .
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: عَامَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.