فظاهره إلى التناقض؛ لأنا إذا فارقَنا فقد فارقْناه لا محالة، فما معنى قوله بعد: قبل أن نفارقه؟ وهو عندنا على إقامة المسبب مقام السبب في تفسيره: فارقَنا قبل أن نريد فراقه، فوضع المفارقة وهي المسبب موضع الإرادة لها وهي السبب؛ وذلك لقرب أحدهما من صاحبه.

ومثله قوله الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 1 أي: إذا أردت القراءة، وهو كثير قد مر في هذا الكتاب، وقد أفردنا له في الخصائص2 بابًا قائمًا برأسه.

ومن ذلك قراءة حطان بن عبد الله:3 "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُل"4، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.

قال أبو الفتح: هذه القراءة حسنة في معناها؛ وذلك أنه موضع اقتصاد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وإعلام أنه لا يلزم ذمته ممن يخالفه تبعة؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 7، وقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} 8.

ومعلوم أن "إنما" موضوعة للاقتصاد والتقليد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 9؟ فهذا كقوله: {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 10، وقوله: {وَقَلِيل مَا هُمْ} 11، وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 12. فلما كان موضع اقتصاد به، وفكٍّ ليد الذم عن ذمته، وكان من مضى من الأنبياء -عليهم السلام- في هذا المعنى مثله، لاق بالحال تنكير ذكرهم بقوله: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ".

وذلك أن التنكير ضرب من الكف والتصغير، كما أن التعريف ضرب من الإعلام والتشريف، ألا ترى إلى قوله:

فمن أنتم إنانسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر13

طور بواسطة نورين ميديا © 2015