خطر لي الآن كلام فأردت أن أنبه عليه " و " على طرف منه فإن شرحه يطيل وذلك أنا بعد وفاة الأستاذ المحقق السني أبي عبد الله بن ناصر رضي الله عنه لم نزل نسعى في نفع الناس بتعليم ما يحتاجون من دينهم وما يحتاجون من أوراد النوافل والأذكار التي يتزودون بها لمعادهم ويتحببون بها ويتقربون إلى ربهم عاملين في ذلك على وجه المؤاخاة والمعاونة على البر والنصيحة، على وجه المشيخة، وعلى وجه التعليم والإرشاد لا على وجه التربية، ثم أنه جرى من ذلك ما عادته أن يجري من كلام منكر أو متنصح، فأخبرني بعض أصحابي أنه جرى كلام بينه وبين " بعض " القضاة المتصدرين للدرس فتكلم له القاضي في شأني وقال له على وجه النصيحة فيما زعم: ما ألجأ فلاناً إلى تلقين الأوراد؟ فهل رأيتم مريداً بشروط الإرادة قط؟ فلما حدثني بذلك قلت له: هلا قلت له: أما أنا لم نرَ مريداً كذلك " فهو كذلك " وكيف نراه إلاّ أن يتداركنا الله برحمته؟ وقد كان الشيخ أبو العباس زروق يحكي عن شيخه أبي العباس أحمد ابن عقبة الخضرمي رضي الله عنهما أنه كان يقول " لهم ": لو فتشتم من أقصى مشارق الأرض إلى أقصى مغاربها على مريد صادق في أحواله لم تجدوه فكيف بالعارف الكامل؟ ومع ذلك فانتقاص الزمان وانتقاص أهله لا يوجب انقطاع الدين ولا ارتفاع النصيحة، فإن هذا النقص سارٍ في الدين وفي العقول وفي الأقوات وفي الإمامة الكبرى والصغرى وفي النصيحة وغير ذلك، وهو قضاء جار أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قبل كونه في الأحاديث الكثيرة، وإليه يشير القائل:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له غير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
هذا ويا ليته دام، فإنه لا يزيد الأمر إلاّ شدة والخير إلاّ إدباراً حتى ينقرض انقراضاً غير أن المعتبر في كل زمان ما هو فيه، وحكم الله تعالى جار في كل بحسب حاله، والدين مستمر، والحق ظاهر حتى يأتي أمر الله.
ثم يلزمك أيها الناصح في هذا مثل ما يلزمنا، وما كان جوابك هو جوابنا، فإنك تصدرت للتعليم فهل رأيت بعينيك متعلماً على شروط التعليم المعتبرة؟ أو هل رأيت في نفسك شروط المعلم؟ " فلا بد أن تعرض على نفسك شروط المعلم " وعلى من يجلس إليك شروط المتعلم، فإن تجد ذلك صحيحاً ظاهراً أو باطناً فتصدر، وإن وجدته مختلاً فكيف يحل لك أن تتصدر، وارتفاع الشرط يوجب ارتفاع المشروط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُؤْتُوا الحِكْمَةَ غَيْرَ أهْلِهَا فَتَظْلمُوها " فإن أجاب بأنه ارتكب أخف الضررين أو أن العلم أمنع جانباً من أن يصل إلى غير أهله أو نحو ذلك فهو جوابنا بعينه، والله الموفق المسئول أن يتجاوز عنّا بعفوه ويتغمدنا برحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لله الأمر من قبل ومن بعد
رأيت أن ألم بملح من الأدب تثميناً للكتاب، وامتناعاً لذوي الألباب، فإن النفس ملول والأذن مجاجة، وفي التلون والانتقال تطييب لها وتنشيط كما قيل:
لا يصلح النفس إن كانت مدبرة ... إلاّ التنقل من حال إلى حال
وذلك كله مما يصلح للمحاضرات ويوافق شرط الكتاب، ويعد من الآداب.
وقد قال الحسن بن سهل: الآداب عشرة: ثلاثة شهرجانية وهي ضرب العود، ولعب الشطرنج، والصوالج، وثلاثة أنوشروانية، وهي: الطب، والهندسة، والفروسية، وثلاثة عربية، وهي: الشعر والنسب وأيام الناس، والعاشرة مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالس، وهذا عام.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي من الباطل ليكون أقوى لها على الحق، وقال الشاعر:
عجبا ً ممن تناهت حاله ... وكفاه الله ذلات الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
مرة جداً وأخرى لعباً ... فإذا ما غسق الليل انتصب
فقضى الدنيا نهاراً حقه ... وقضى لله ليلاً ما يجب