ثانيهما أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه.

أما الوجه الثاني وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا " صائحاً " يقول: " يا سعتر بري " فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول " اسْعَ تر بِرّي " " وفهم الآخر أنه يقول: " السّاعَةَ تَرى بِرّي " وفهم الآخر أنه يقول: " يا سَعَة بِرّي "، وكان سماع الثلاثة جميعاً من الحق تعالى إلاّ أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله.

أما الأول فكان سالكاً مبتدئاً، فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البر بكسر الباء، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى.

وأما الثاني فكان سالكاً تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة.

وأما الثالث فكان واصلاً " قد " شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بر الله تعالى ما أوسعه! فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وأن لم يكن طبقاً لها لا إفراد ولا تركيباً ولا حقيقة ولا مجازاً، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البري بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير.

وأما الوجه الأول فهو الكثير المشهور، وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب وفي الضمائر ونحو ذلك.

ولا بد أن نورد من ذلك أمثلة يتضح بها ما قررنا ليكون مأخذاً في هذا الباب، ومصباحاً يستضيء به ذوو الألباب.

فمن ذلك ما وردت عليه فهوم الناس قبلنا كما مرّ من الأبيات، فنشير إلى مأخذ الفهم منه، ومن ذلك ما يسنح للخاطر الآن، فأما أبيات أبي نواس فهي كلها واضحة في إشاراتها، وكذلك أبيات الفتى، فإن ليلى عبارة عن المحبوب " عند " السامع إما خالقاً وإما مخلوقاً واحداً أو جماعة كأهل الله وطائفة المحبين والمنتسبين، أو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو نحو ذلك مما يخطر في البال، وأما أبيات مكين الدين فالراح فيها عند السامع هنا هي الخمرة الربانية القلبية، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعاروا له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء " أيضاً " وبعد البيتين:

يا من يلوم على صهباء صافية ... خذ الجنان ودعني أسكن النارا

أي خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق وما يتحمله أصحاب ذلك.

وقد وقع لي ذكر لهذا المعنى في أبيات من قصيدة طويلة وهي:

فلولا هوى نجد وطيب نسيمها ... وريح خزاماها إذا ساوق الفجرا

وعذب فرات سلسبيل سخت به ... أكف العوادي في حدائقها غمْرا

مشمولة صهباء ما قطّ شابَها ... بِراوُوقه الحاني ولا حلت القِدْرا

بها هامت الأرواح من قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا وإذا نبلغ الحشرا

فكم ولهتْ فكر ابن عيسى ومالك ... وكم أطربت سهلاً وكم شغلت بشرا

إذا ما تحساها الفتى لم يخف بها ... جُناحاً ولكن يرتجي عندها برا

تحمِّلُه الأوزارَ غيرّ مذمّم ... بأعبائها العظمى ولم يحمِلِ الوِزْرا

وتبرد غلاّت الحشا وتشبُّها ... أُواراً وتعطي الرشد والسفه الحجرا

وتورثه قبضاً وبسطاً وفرقة ... وجمعاً ونسياناً وتورثُه ذكرا

فلولا رجاء الفوز منا بشربة ... تداوي عقابيل الهوى والجَوى المُغْرى

لكانت أكف البين تصدع بالجوى ... زجاجة أحشائي فلا أملك الجبرا

فكل ما في هذه الأبيات من ذكر الصهباء وكذا نجد وريح الخزامي والعذب والفرات كل ذلك استعارات، وجرى الشعر على أسلوب العرب في الحنين إلى نجد ومنابته، وهو ما ارتفع من بلادهم، وكل أحد نجده ما توجه إليه، وإن لا يرتفع حساً فهو مرتفع معنى فافهم.

وأما أبيات ابن المعذل فالبيت فيها عند السامع هو القلب، والساكن فيه هو الحق تعالى شهوداً وحضوراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015