الأول أن التدريج معتبر عند الناس، وهو حكمة الله تعالى البالغة الجارية في الناميات الحسيات والمعنويات، ثم ارتكاب أخف الضررين مطلوب شرعاً، فلو رأينا مثلاً كافراً مضراً بالمسلمين وتعذر قطع ضرره بالسيف فإنا إذا أمكننا أن نستنزله عن الضرر بسبب " من " موعظة أو مال أو حظ ما فعلنا ذلك، ورأيناه إذا نزل عن ذلك أفضل من غيره، وإلى هذا الفضل إشارة حديث: " أسْلَمْتَ عَلى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ " ولو أمكن أن نستدرجه إلى الإسلام ولو بحظ من دفع مال أو إظهار حفاوة مثلاً لفعلنا ذلك، وهو التأليف الذي جاءت به الشريعة، ورأيناه إذا أسلم ولو مع شوب الحظ أفضل ممن بقي على الكفر المحض ولا نلزمه في هذه الحالة الإخلاص وحقائق الإيمان لأنا نرجو أن سيعاشر المؤمنين ويعاين محاسن الإسلام فلا يزال يتمكن ويصفو، وهكذا وقع لكثير ممن أسلم أوّلاً رغبة في المعاش واستحلاء للغنائم، أو هرباً من الجلاء والسيف.
ثم إن المسلم إذا كان مسرفاً على نفسه وأمكننا أن نستجرّه إلى ترك المعاصي والتنزه عن الفسق فعلى هذا النمط ولو تاب إلى الله تعالى وأقلع عن الشهوات الدنيوية طلباً لما أعد الله تعالى في الدار الآخرة من النعيم الذي لا يوازيه نعيم الدنيا ولا يدانيه، وكان لا يجد من نفسه في الحال نزوعاً عن اللذائذ العاجلة إلاّ بما يمنيها به من اللذائذ التي هي أشرف وأنفس فإنا نساعده على هذه العزمة ولا نذمه بأنه انتقل من حظ إلى حظ، ولا نطالبه بارتفاع الهمة " إلى الحضرة " والتخلي عن الدارين، فإن هذا لم يكن بعد من أهل هذا الشأن، وأن النفس لَجوج مصرّة على حظوظها الحسية، وإنما تنزل عنها بالطمع فيما هو من جنسها وأشرف منها إلاّ من خصه الله تعالى.
وقد قال صاحب " القواعد ": " ما جبلت عليه النفوس فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها، وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله تعالى توكلاً عليه ورجاء فيه والحرص على الدار الآخرة بدلاً من الدنيا ... " إلى آخر كلامه فلو ألزمنا هذا عزل النفس عن الحظوظ وتجريد القلب للحقيقة أوشك تحيص نفسه حيصة وهي لم تزل قوية، فيعود من حيث جاء، ولعلك تفهم بهذا سر امتلاء كتاب الله تعالى بذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور والغلمان والأنهار، فإن الدعاء بمثل هذا هو مشرب النفس، وهو حال عامة الخلق، والله تعالى أعلم بمصالح عباده.
ثم إذا ترفع المزيد عن هذه الحالة واشرأبَّ إلى ما وصل إليه العارفون، وانتهض لسلوك هذا المسلك والاشتغال بعمله من العزلة والصمت والجوع والسهر فلو توسمنا فيه التشوف إلى حصول الوصول، أو الولاية، أو المعرفة، أو الفتح، أو القرب، أو نحو ذلك فلا ينبغي أيضاً أن نعالجه بالتحقيق ونطالبه بالعبودية والفناء عن الأغيار من أول وهلة، بل نرخي له العنان حتى يتمكن في الرياضة وتنقاد نفسه ويقشعر جلده وقلبه لذكر الله، فعند ذلك تسهُلُ إشالته مع السابقة والتوفيق إما على لسان شيخ ناصح أو أخ صالح أو بعض من ينصره الله به كما وقع للشيخ أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: كنت أنا وصاحب لي في مغارة نتعبد ونقول: غداً يفتح علينا، وهكذا وطال علينا الأمر، فبينما نحن كذلك يوماً دخل علينا رجل من باب المغارة فسلم ورددنا عليه ثم قلنا له: من أنت؟ فقال: عبد الملك، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: كيف أنت؟ قال كالمنكر علينا: كيف أنت؟ كيف أنت؟ كيف حال من يقول: غداً يفتح علي فلا فتح ولا فلاح، ولا دين ولا دنيا، يا نفس لم لا تعبدين الله مخلصة له الدين، قال الشيخ: فعلمنا من أين أتينا ورجعنا على أنفسنا باللوم، وقلت: يا نفس، أي شيء أنت حتى تطلبي ما تطلبين أو كلاماً هذا معناه، فقال فجاء الله تعالى بالفتح أو موهبة من الله تعالى بلا واسطة سبب، وما ذلك على الله بعزيز.
وبالجملة فدواعي النفس صعبة الانفصال عن الإنسان، ومع ذلك فهي معينة في بابها " إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ "، ومتى وافق الحق الهوى فزبد وعسل.