قلت: وهذا يذهب به العوام ويرتكبون ظاهره، وتأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز لشيء من الأشغال أو الفضائل إلاّ العجز، وما لا يجوز لا يفعله الولي اللهم إلاّ مغلوباً بوارد، ولا يقتدي به في تلك الحالة مع أن الموفق محفوظ، أما التأخير عن أول الوقت مثلاً فقد يكون لأمر مهم أو فضيلة تربو، ومحل العذر أو الترخص في السفر أو نحوه معلوم.
وحدثونا عن سيدي عبد الله بن " عمرو " المضغري أنه أرتحل إلى مليانة لقصد ملاقاة الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف الراشدي والأخذ عنه، فوافى البلد وقت صلاة العصر، وقد كان صلى، فلما انتهى إلى زاوية الشيخ سأل عنه فقيل له: إنه لم يصل العصر " بعد " فأنكر ذلك وقال: إن هذا الرجل لم يحافظ على أول الوقت، وانصرف عنه، وذهب إلى سيدي عبد العزيز القسمطيني فأخذ عنه - نفع الله بالجميع -.
وقد صار ذلك التأخير الذي وقع للشيخ سبباً لانصراف الآخر عنه حيث لم يسبق القدر بأن يكون من أصحابه وإلاّ فللناس أعذار.
ومن الملح في تأخير الصلاة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن سودة قاضي مدينة فاس - رحمه الله - كان يؤم بجامع القرويين وكان يؤخر صلاة الصبح تأخيراً مفرطاً، فحدثني بعض الأصحاب قال: لقيت صبياً من أهل فاس " إذ ذاك " فسألته عن صلاة الصبح في القرويين هل أدركها؟ فقال لي: والله لا تمشي إليها إلاّ بالمظلة، يعني التي تجعل على الرأس اتقاء الشمس، وهذا إفراط في المبالغة.
ومما اتفق في هذا الإنكار ولكن في العكس، وهو التقديم ومزاحمة الوقت، حدثونا عن الفقيه الصالح أبي عبد الله سيدي محمد بن سعيد الميرغتي أنه ورد على شيخنا وأستاذنا ومفيدنا الإمام أبي عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي - رحم الله الجميع ونفعنا بهم - فكان المؤذن إذا أذن " المغرب " ينكر عليه ويقول له استعجلت: فلما أكثر في ذلك وانتهى الأمر إلى الشيخ خرج إليه فسار معه إلى صومعة الجامع الكبير وذلك في عشي النهار، فجلسا بأعلى الصومعة يتحدثان والمؤذن الذي كان ينكر عليه في مسجد الخلوة بعيداً عنهما بنحو مد البصر، وبقيا في حديثهما حتى غربت الشمس وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقال الشيخ للفقيه المذكور: أقد تبين الوقت؟ قال نعم، وبفور كلامه قال مؤذن الخلوة: الله أكبر، وجعل يؤذن فعجب الفقيه من هذا الاتفاق الغريب، وعلم أن الأذان كل يوم كان على الصحة، فلم يعد إلى الإنكار.
لله الأمر من قبل ومن بعد
حدثني الأستاذ المقرئ الفاضل أبو عبد الله الشرقي بن أبي بكر عن والده سيدي أي بكر أنه كان ذات مرة هربت العكاكزة أولاد عبد الحق بن المنزول من بلادهم فنزلوا بساحته وهم جياع، ووجدوا زرع زاويته محصوداً مجموعاً فقال لهم: ادرسوا وكلوا، فقام إليه ولده الكبير أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر فأنكر ذلك وقال: إن هؤلاء فساق أو كفار، ثم هم ظلام محاربون فكيف تعينهم وتبيح لهم زرع المساكين؟ فقال أبوه: إني أريد أن أتخذ عندهم يداً فإذا استلبوا مسكيناً يوماً " ما " وجاء إليّ يشتكي كتبت إليهم كتاباً فلا بد أن يراعوا هذا الخبر فيردون عليه متاعَهُ فأنا إنما فعلت هذا لحق المساكين.
قلت ولعل هذا هو نظر ولده المذكور في المسعود بن عبد الحق، فإنه كان يدنيه حتى إنه كثيراً ما يكون أول داخل عليه وآخر خارج حتى إن الفقيه النحوي الحافظ أبا عبد الله محمد بن أبي بكر الإسحاقي الجراني وكان ابن أبي بكر يجفوه كان يقول:
وإنما دنياك بالسعود ... وإن شككت انظر إلى مسعود
وحدثونا عن مسعود هذا أنه " كان " يحضر مع الناس مجلس البخاري فاحتالوا عليه يوما حتى أوقعوا نقطة مداد على رجله، فلما رجع من الغد لحظوها فإذا هي بحالها فعلموا أنه لم يكن يصلي، أو يصلي بغير طهارة، وهذا الذي فعله المرابط المذكور داخل في باب الرفق والمداراة.