أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً ... وشر الناس من يهوى السِّبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا
وقال غيره:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول: لا يعنيني
وقال غيره:
إن المكارم أخلاق مطهرة ... فالعقل أولها والدين ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابِعها ... والجود خامسها والعرف ساديها
والبر سابعها والصبر ثامنها ... والشكر تاسعها واللين عاشيها
والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلاّ حين أعصيها
والعين تعلم في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من أعاديها
وقال غيره:
اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطى على هفواته ستر "
وفي الحكمة: اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل، وفي قوله تعالى:) عَرَّفَ بَعْضَه وَأعْرَضَ بَعْضَه وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضِ (مشرب في هذا المعنى، ويقال: ما استقضى كريم قط، وفي الحديث: " لَمّا أُسْرِيَ بي كَانَ أوَّلَ مَا أمَرَني بهِ رَبِّي أنْ قال: إيّاكَ وَعِبَادَةَ الأوْثَانِ، وَشُرْبَ الخَمْرِ، وَمُلاحَاة الرِّجَالِ " وفي حديث آخر: " احْذَرُوا جِدَالَ كُلَّ مَفْتُونٍ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ حُجَّتَهُ إلى انْقِطَاعِ مُدَّتِهِ " وقال الشاعر:
إني محضتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق
وقال الآخر:
اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطى على هفواته ستر
وهذا باب واسع مشهور، وفيما ذكرنا منه كفاية.
لله الأمر من قبل ومن بعد استقراء المؤلف لهجة ريفية من جملة ما اتفق لي في هذه السفرة إلى جبال الزبيب وسفرات أخرى لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه أني سمعت لغة لأهل تلك الجبال: يكسرون آخر الموقوف عليا استقراء فتتبعتها فوجدتها لها ضابط، وقد رأيت غيرهم من أهل الآفاق يسمعون عنهم ذلك فيحكونه على غير وجه وينسبون إليهم ما لا يقولون جهلاً منهم بضوابطها، فإنهم لا يكسرون إلاّ الفتحة بعدها ألف، أما الألف المقصورة كالدنيا، أو الممدودة كالسماء والطلباء والشرفاء، والأصلية كالماء، أو المقلوبة عن هاء التأنيث في مجرى العرف كالبقرة والشجرة والصفحة فإن العوام من غيرهم يقولون في الوقف على هذه: البقرا والشجرا بألف، وهؤلاء يكسرون فيقولون: البقري والشجري وتنقلب الألف ياء، وهذا كله في الوقف فإن وصلوا نطقوا بالألف كغيرهم، وإن لم يكن الفتح ولا الألف كالشجر والبقر مراداً به الجنس وقفوا بالسكون كغيرهم، وأني لما تأملت ذلك من كلامهم وحققته في أقرب مدة اتضح عندي معنى الاستقراء في نحو هذا بالمشاهدة، وعلمت كيف كان أئمة العربية القدماء يستقرئون النحو واللغة من أفواه العرب ويضبطون لغة كل قبيلة في ذلك، وتبين أن ذلك أمر صحيح بيّن، وللتنبيه على هذا حكيت هذه القصة، فلا يقل جاهل: ما لنا ولهذه اللغة؟ فلتعرف أو لا تعرف، هذا مع أن معرفة الشيء خير من جهله، فالجاهل بالشيء أعمى فيه وفي ظلمة عنه، والعالم به بصير به وفي نور فيه،) وَهَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ (والعلم ذخر يجده صاحبه عاجلاً أو آجلاً، وحجة ينتصر بها في الخطوب أيضاً.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
ومما اتفق لي في هذا أني كنت قدمت في أعوام الستين وألف من رحلتي في طلب العلم، وكنت إذ ذاك شاباً، فدخلت الزاوية البكرية، فوجدت شيخنا أبا عبد الله محمد بن محمد المرابط - رحمه الله - قد جمع خطباً وعظية وتقدم إلى أهل الوقت في بلده ليكتبوا عليها تقريظاً، فكتب كل ما قدر له من نثر ونظم، فلما رأيت ذلك كتبت أنا أيضاً فوقع في مكتوبي لفظة القطائف " اللطائف " فاعترض علي ورام تبكيتي وقال: إنا لا نعرف القطائف إلاّ هذه المفروشات، فقلت له إن القطائف هنا جمع قطيفة بمعنى مقطوفة، فقال: هو صحيح في اللغة ولكن الأدباء لهم الاختيار وعندهم ألفاظ يستعملونها مخصوصة، فلا يرتكب عنده كل ما يقع في اللغة، فقلت له حينئذ: هذا أبو محمد الحريري يقول في " مقاماته ":