واعلم أن أشرف ما يكاشف به العهد ما يرجع إلى معبوده تعالى من معرفته وما له من الجلال والجمال ومن أسماء علية، وصفات سنية، كما مرّ، ثم ما يرجع إلى حكمته في مملكته، ما يرجع إلى أحكامه من معرفة ما تعبّدَ به عباده أصلاً وفرعاً وكل علم يعين على ذلك.
وقد وقع في كلام الشيخ الصالح أبي عبد الله السنوسي - رضي الله عنه - حين تكلم عن مذهب أهل السنة في أفعال الحيوان وأنهم أطلعهم الله تعالى على المعنى الجامع بين الحقيقة والشريعة وجنبهم جانبي القدر والجبر ذلك فقال: هذا هو الكشف الذي ينبغي أن يسمى كشفاً لا ما يبتلى به الجاهلون من أحلام شيطانية يتوهمونها كرامات، وهي استدراجات أو نحو هذا من الكلام، فهذه الجملة كلها " كلما " يزداد فيها العبد ازداد كمالاً لأنه أمر مطلوب منه الاطلاع عليه فطلبه قُرية، وحصوله درَجة، ووجوده منفعة، وأما ما خرج عن هذا من جزيئات الكون التي هي متعلقات القضاء والقدر ولا يتعلق بها حكم فليست مطلوبة من العبد إذا أخفيت عنه، فأدبه أن لا يشتغل بها شغلاً بالله تعالى وبما لله تعالى عليه، فإن رزقه الله معرفته وشغله بما له عليه وغطى عنه مملكته وتركه كذلك حتى يلقاه موفوراً فقد أسبغ عليه النعمة، وحماه من جميع موارد النقمة، وإن أطلعه على شيء من ذلك فليعلم أن ذلك لا جدوى له في باب العبودية، وإنما فيه أمر واحد وهو أن الكرامة كلها في الجملة إن صحت دليل على صدق من ظهرت عليه " وعلامة على الخصوصية " وتثبيت لقدم " من " أريد تثبيته في الطريق مع ما ينضاف إلى ذلك من الشكر ومن الرجاء والخوف، وفيها مع ذلك من المخاطرة خوف الركون والمساكنة لها والمكر، كما قيل إنها خدع من الحق للمتوجهين ليقفوا على الحد الذي أريد بهم ولا يجاوزوا إلى مقام لم يكن لهم، وذلك فيمن أريد بذلك، نسأل الله العافية، فحق العبد التسليم والاعتناء بحقوق الله والإعراض عن حظوظه، وإن طلب شيئاً من ذلك طلبه بإذن ليصير من الحقوق، كما أنه أيضاً لا يهرب منها إلاّ بأدب لئلا يصير الهرب من الحظوظ.
وهذا الكلام ربما يحتاج إلى تفسير غير أنا نقتصر فقد خرجنا أو كدنا نخرج عما نحن فيه و " مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ".
واعلم أن ما ذكر من أحوال المدعين على وجه النصح لهم ولمن يغتر بهم إنما أردنا تخليده في بطون الأوراق ليقع عليه الخواص أهل الأدب والفقه الذين يضعون الهناء موضع النقب فيعطون كلَّ ذي حق حقه مع حفظ الحُرْمَة وإقامة حق النسبة كما أشرنا إليه في صدر هذا الكلام، ولم نرد أن نفتح الباب لكل جامد على الظاهر أو خبيث جريء على أهل النسبة مسقط للحرمة فيتخذ مثالب المنتسبين إلى الله تعالى فاكهةً ويمزق أديمهم في مجالس السفهاء حتى يدخل الوهن على النسبة والطعن في الخرقة فيُزْري العُرْيانُ باللابس، ويحترق الرطب باليابس.
وليعلم الجاهل الجمود أن " هذه الأمَّة المُطَهَّرَة المُشَرَّفَة كَالْمَطَرِ لا يُدْرَى أوَّلُهَا خَيْرٌ أمْ آخِرُهَا ". و " لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْهَا ظَاهِرِينَ عَلى الحَقِّ لا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ " كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي كل زمان سادة، وفي كل قطر قادة، فكم من طالع في الدين كالشمس، وإن لم يبصره العُمْيُ والعُمْشُ، وكم من محبوب يرفل في حلل الأنس والإدلال، ويرتضع كؤوس الجمال والإجلال لو تحمّل الشفاعة في قرنين قبيلاً فقبيلاً لكان ذلك في جنب حظوته من مولاه قليلاً وكم من ولي أرخى عليه الخمول ذيلاً، وصار نهاره في أعين أبناء الدهر ليلاً، فأصبح من ضنائن الله بين أوليائه، يلعب بالدهر كما لعب الدهر بأبنائه.
وقال أبو نواس:
تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
وقال الآخر فيهم:
لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا
هم السلاطين في أطمار مسكنَةٍ ... جرّوا على فلَك الخضراء أذيالا
غُبْرٌ ملابسُهم شم معاطسهم ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
هذي المناقب لا ثوبان من عدنٍ ... خيطا قميصاً فعادا بعد أسمالا