وهكذا المريدُ خفيرهُ من تلبيس الشياطين عقله مع توفيق الله تعالى، فإذا ذهب " عنه " استمكن منه وهو يطلب ذلك ويحرص عليه لأنه رأى أو سمع أهل الشراب الصافي من أولياء الله تعالى ورأى ما يطلعون عليه من المغيبات وما يدركون من الحقائق وما يتصرفون في المملكة من التصرف، وما يقع للخلق من الإقبال عليهم والتنويه بهم، فيشتهي المسكين تلك الحالة لذلك ولا يدري أن أولئك لم يكونوا أهل شهادات مثله، ولا نالوا ذلك بحولهم " واحتيالهم " ولا قوتهم، ولا بالترَّهات التي يشتغل بها هو، وإنما اختصهم الله بموهبته وأهّلهم لحضرته من غير تدبير منهم ولا اختيار، ولو كان لهم اختيار لاختاروا البقاء في خدمته وأن لا يغيبوا عنها لحظة، فإن أدب العبد وشرفه إنما هو في خدمة مولاه لقيامه فيها بحق سيده لا بحظ نفسه، وما مثال من يطلب الخروج عن ذلك بالولهِ والسكر إلاّ مثال عبد نصبه سيده لخدمته وهو يريد الإباق عنها أو يريد أن يتركها اختياراً منه ليدخل إلى مجلس سيده، فما أحقه في الحالتين بالعصا تأديباً أو طرداً نسأل الله تعالى العافية، نعم ما مر من أنه لا ينبغي له تعاطي السماع مثلاً إنما هو ما دام اختياره معه، وأما المغلوب فلا حكم عليه، وبهذا يجمع بين ما نذكر وبين ما يقع للصوفية في باب السماع وباب الوجد.
وبلغنا أن جماعة قدموا على سيدي محمد الشرقي التادلاوي المتقدم الذكر فخرج إليهم وتحرك سماع فلم يشعروا به إلاّ وهو في وسطه يتواجد " و " ليس عليه إلاّ القميص، قال بعض الجالسين لآخر سراً: هذا رجل خفيف، فإذا هو على الفور تكلم على خواطرهم فقال:
الله الله يا الله ... الله الله يا لطيف
الحب يهز الرجال ... لا والله ماني خفيف
ومن هذا قول القطب العارف الشيخ أبى مدين رضي الله عنه: " حيث قال ":
فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه ... إذا لم تذق معنا شراب الهوى دعنا
" إلى أن قال ":
فإنا إذا طبنا وطابت عقولنا ... وخامرنا خمر العشيق تهتكنا
فلا تلم السَّكران في حال سكره ... فقد رفع التكليف في سُكرنا عنا
والأبيات مشهورة، غير أن هذه الغلبة لا يتحققها الجهال ولا ينتظرونها، نعم استدعاء حال يرجى عنه رقة القلب وانشراح الصدر وذهاب جساوة النفس ورعونتها بلا زائد مع صحة القصد لا ينبغي أن ينكر، بل يلتحق بما أذن فيه شرعاً، بل حضّ عليه مما يفيد رقة القلب وخشوعا وتذكير الآخرة كحضور مجالس الذكر وقراءة القرآن " بالتدبر " وزيارة القبور والمسح على رؤوس اليتامى ونحو ذلك.
وقد انجرَّ بنا الكلام إلى ما لا حاجة بنا إليه في هذا المحل لكثرة أبوابه واتساع شعابه، فلنرجع على ما نحن فيه فنقول: وأما في حال اليقظة فليحذر أيضاً من الغلط في رؤيته كما مر وفي خاطره فلا يثق بكل ما يرد عليه في قلبه " في نفسه " فضلاً عن أن يخبر به الناس، وليفرض ذلك الوارد كأنه شخص مجهول ورد عليه من سفر فأخبره بأمر وقع في بلد آخر فلا يثق به وهو لا يعرف صدقه من كذبه، ولا يخبر أحداً بخبره حتى ينظر، ولو وثق به وحدث الناس بكلامه دخل في مضمون: " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ "، بل حتى ينظر " هل " صدق ما أخبر به، ثم إن صدق فأخبره كرة أخرى فلا يثق به أيضاً لأنه قد يتفق للكاذب الصدق مرة أو أكثر، ثم إن صدق فأخبره أيضاً فكذلك حتى يحصل " له " اليقين بالتكرار والقرائن أنه صدوق، فعند ذلك يثق به فيقول: حدثني الثقة، وهكذا خاطر القلب، وهيهات تحقق ذلك فيه بمجرد هذا، فإن الشخص في المثال يكون معروفاً بعينه، فإذا ثبت له وصف من الصدق عرف به، أما الخاطر القلبي فمتى يعرف أن هذا الذي أخبره الآن هو الذي صدق قبله وهو يعلم أن القلب ميدان للربّاني والملكي والشيطاني والنفساني فلعل هذا شيطاني أو نفساني، نعم إن كان من جنس من قال: كنت بواباً على قلبي ثلاثين أو أربعين سنة، فمتى تحرك خاطر سوء صرفته عنه فعسى أن يثق بما حصل في قلبه، وكذا الله أعلم من ربه أنه أعطى الخاطر أو تجريب صادق من أهله في قلبه كما مرّ أو مع ربه أنه يعلمه بما يحدث في المملكة.