كان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر قد ملك المغرب سنين عديدة، واتسع هو وأولاده واخوته وبنو عمه في الدنيا، فلما قام الشريف السلطان رشيد بن الشريف ولقي جيوشهم ببطن الرمان فهزمهم وذلك أوائل المحرم فاتح سنة تسع وسبعين وألف فدخلنا عليه وكان لم يحضر في المعركة لعجزه من كبر سنّه فإذا بالفَلّ يدخلون فدخل عليه أولاده واخوته وأظهروا جزعاً شديداً وضيقاً عظيماً، فلما رأى منهم ذلك قال لهم: ما هذا؟ إن قال لكم حسبكم فحسبكم، يريد الله تعالى، وهذا كلام عجيب، وإليه يساق الحديث، والمعنى: إن قال الله تعالى لكم حسبكم من الدنيا فكفوا راضين مسلمين، والإشارة بهذه إلى أن الله تعالى وضع في الدنيا مائدة لعباده وجعلها دُوَلاً كما قال تعالى: " وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ " فكل من جلس على هذه المائدة وتناول منها ما قسم له فلا بد أن يقام عنها بالموت أو العزل ليجلس غيره، ولا تدوم لأحد، بل لا يقام عنها من أقيم غالباً إلاّ بمرارة وعنف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " في الولاية "؛ نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ ".
ثم من الناس من لم يشعر بهذا المعنى ولم يتنبه له، فهو يسعى إليها عجباً بأوائل زبرجها وانخداعاً بظاهر زينتها، كما قيل:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطا تنكّر لونها وتغيرت ... مكروهة للشمّ والتقبيل
ومن الناس من علم ذلك وتنبه له، ثم من هؤلاء من نفعه الله بعمله فأوجب له أحوالاً محموده إما قبل ولوجها بالزهد فيها والفرار عنها علماً بغايتها ديناً وتقوى أو حزماً في الدنيا، وأما بعد الولوج بالتعفف والعدل والإحسان والرفق ومجانبة البغي والجور إما ديناً وحذاراً من المطالبة في الآخرة، وإما حزماً دنيوياً وحذار من اختلالها واضمحلالها.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد حكي عن فرعون - لعنه الله - أنه دخل عليه بعض أشياعه بمال عظيم فوضعه بين يديه فقال له: من أين هذا؟ فأخبره أن بعض القرى من أعمالهم كان لهم ماء فتبطل، وأنه قد أذن لهم في إحيائه وإجرائه على هذا المال، فقال له فرعون: الماء ماؤهم وقد أجروه، ففيم يدفعون المال؟ هذا ظلم وجور، والملك لا يستقر على الجور، فاردد إلى الناس أموالهم.
قال بعض أئمتنا: فانظروا، يا معشر المسلمين، هذا كافر لا يلتفت إلى الدار الآخرة، ثم حافظ بالعدل على دنياه فقط، فكيف بمن يدعي الدين ثم لا يلتفت إلى العدل ولا يحافظ على الدين ولا دنيا.
قلت: وقد قال الحكماء: إن الملك يستقر ويستقيم مع الكفر ولا يستقيم مع الجور، والعلة فيه أن الملوك هم خلفاء الله تعالى على عباده مؤمنهم وكافرهم، غير أن المؤمن خليفة في الطرفين، والكافر في الدنيا فقط، والملك هو نظام العالم، والعدل " هو " روحه، فمتى ذهب العدل اختل النظام ووقع الفساد في العالم، ولذلك قال أرسطوطاليس في " ضوابطه ": العالم بستان سياجه أي حائطه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد تعبدهم العدل، العدل مألوف وهو حياة العالم.
ومن كلام الفرس: لا ملك إلاّ برجال، ولا رجال إلاّ بمال، ولا مال إلاّ بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقال الإمام علي - كرم الله وجهه -: الدين أس، والملك حارس، وما لا أس له مهدوم.
وفي الحديث: " صِنْفَاِن مِنْ أُمَّتي إذّا صَلُحَا صَلُحَ النَاسُ: الأمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ ".
وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.
وقال عمر - رضي الله عنه -:لا يقيم هذا الأمر إلاّ رجل يخاف الله في الناس، ولا يخاف الناس في الله.
وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حَطوم، خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم، خير من فتنة تدوم.
وفي أمثالهم: إذا رغب السلطان عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.