وفي الحديث: " لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ " فالحق عندنا في تأويله " أنه " إثبات لانفراد المولى جل وعز بكل التأثير، وأن لا تأثير لشيء مما يتوهم العرب أنه مؤثر، لا في باب العَدْوى ولا في باب الطِّيَرَة. لا انه نفي لما جرت العادة بوجوده عند ذلك بإذن الله تعالى، وهذا هو الجمع بين التوحيد والحكمة، وهو جمع بين الحقيقة والشريعة في المعنى، وقوله صلى الله عليه وسلم: " وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍّ " أي ذو الإبل المريضة على ذي الإبل الصحيحة يحتمل معنيين: أحدهما " أنه " سدّ للذريعة بمعنى أنه ترك ذلك مخافة أن يقع شيء " بإذن الله " فيظن من وقع له أو غيره أنه ناشئ عن ذلك السبب فيقع في الشرك، الثاني أنه إثبات لما جرت به العادة من حكمة الله تعالى كما قررنا، فيعتبر ذلك شرعاً ولو لم يكن إلاّ تنزهاً عن تغيير القلوب وآية الناس.
وفي الحديث أيضاً: " اطْلُبُوا الخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ " وهو يحتمل أموراً: الأول: " اطلبوا الخير " عند الناس الحسان الوجوه فإن الخير مقرون بهم، وهذا من نمط ما نحن فيه.
الثاني: اطلبوا الخير منهم فإنه يصدر عنهم الخير بإذن الله تعالى، إذ حسن الخَلْق عنوان حُسْنِ الخُلْق كما تقرر في الفِراسَة الحكمية وهو قريب مما قبله.
الثالث: اطلبوا الخير عندهم ومنهم، فإن النفس تنبسط إليهم وتتمتع برؤيتهم، وفي الحكمة: اعتمد بحوائجك إلى الصباح الوجوه، فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل.
الرابع: اطلبوا الخير أي الرزق عند الوجوه المُستحسنة " شرعاً " كالبيع والتجارة والقراض والهبة والصدقة وسائر الوجوه الحِلّيّة دون السرقة والغصْب والخيانة ونحو ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا أبْرَدْتُمْ إلَيَّ بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ " وهو أيضاً يحتمل أنه لمجرد النظر أو لزائد على ذلك، ولهذا بعث الله الأنبياء ولا سيما نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة.
وفي ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه: كان يتجنب أهل العاهات والناقصين خلقة، وكان يقول: احذروا الأعور " والأحول " " والأعرج " والأحدب، والأشقر، والكوسج، وكل من به عاهة في بدنه فإن فيه التوّى ومعاشرته عسيرة.
ومن غريب ما وقع له في ذلك أمران: الأول أنه حكى أنه بعث رجلاً من أصحابه ذات مرة ليشتري له نوعاً من العنب معروفاً، قال الرجل: فذهبت فلم أجده إلاّ عند رجل من هذا الجنس، إما أشقر أو أزرق قال: فأتيته به، فلما طرحت الطبق بين يدي الإمام قال: أين وجدت هذا؟ قلت: عند فلان، وكان يعرفه، فقال: أردد إليه عنبه، قال: فقلت: يا أبا عبد الله، إن لم ترد أن تأكله أكله غيرك، فقال: ما أحب أن تتم المعاملة بيننا وبينه، فانظر في هذا، ولا تظن أن الإمام به حب الثمن يسترده ولا يتصدق بالعنب، كلاّ، فإن جوده قد طبق الآفاق، وهو الذي وضع بين يديه عشرة آلاف خارج مكة، فكل من سلم عليه يعطيه حتى لم يقم إلاّ وقد فرغت، وإنما الحامل له على ما قال ألاّ تتم المعاملة بينه وبينه، والظاهر من القصة أن الرجل المبعوث قد اشترى العنب شراء بَتّاً، وهو العادة في مثل ذلك، ففسخ العقدة إن لم يكن فضلاً من البائع إنما هو أن يدعي أنه من مثل ذلك الشخص عَيب، وهذا نهاية هذا الأمر، وليس بعجب، فقد حكي عن بعض القضاة من السلف أنه رد فرساً على بائعه بشية قد عيبت فيه.