وفي " الحكم العطائية ": ليقلَّ ما تفرح به يقل ما تحزن عليه وذكر شارحها ابن عباد رضي الله عنه أنه حمل لبعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم يُرَ له نظير، ففرح الملك به فرحاً شديداً، فقال لبعض الحكماء عنده: كيف ترى هذا؟ فقال: أراه مصيبة وفقراً، قال: وكيف ذلك؟ قال: إن انكسر مصيبة " لا جبر لها " وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، فاتفق أن انكسر القدح يوماً فعظمت مصيبة الملك فيه وقال: صدق الحكيم، ليته لم يحمل إلينا، وقال الشاعر:
ومن يحمد الدنيا لشيء يسره ... فسوف لعمري عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها
وفي " الحكم " أيضاً: إن أردت أن لا تعزل فلا تتولَّ ولاية لا تدوم لك. وهذا صادق في الولاية نفسها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيها: " نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ " وفي غيرها من كل ما يتناول الإنسان من الدنيا زائداً على قدر الضرورة أو يصحبه من أهلها، فكل ذلك لا يخلو من علاقة بالنفس، ثم هو لا يدوم إما أن تفارقه او يفارقك، فمآله إلى الحسرة والأسف.
وكنت في سفرتي إلى السوس الأقصى لقيني فقير من شبانه فصحبني أياماً قلائل وأنس بي، فلما بلغنا المحل ودعته فرأيته يبكي على فراقي، وسمعته يقول: لا تعرف أحداً، ويكرر هذا الكلام، أي إذا كنت أيها العاقل تعلم أن الذي دخل في قلبك سوف تفارقه فيتألم قلبك عليه فلا تسع في دخول أحد فيه بمعرفتك له، ولا تعرف أحداً، واترك قلبك خالياً مستريحاً.
رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أوَّلاً
وهذا كله واد واحد والكلام فيه يتسع.
نعم إن أمكنك أن تدخل في قلبك من لا يخشى عليه الزوال والهلاك والفناء فافعل، وليس ذلك إلاّ الحق تعالى، فمن أحبه فهو جدير أن يدوم محبوبه، ومن أنس به فهو جدير أن يدوم أنسه، ومن استعز به دام عزه، ومن استغنى به دام غناه، كما قيل:
ليكن بربّك عز نفْ ... سك يستقرّ ويثبت
وإن اعتززت بمن يمو ... ت فإن عزّك ميت
لله الأمر من قبل ومن بعد
دخلت مدينة فاس - حرسها الله تعالى - سنة تسع وسبعين وألف، إذ خربت الزاوية البكرية، فأقبلت طلبة العلم للأخذ عني، وتخلفت جماعة من المشاهير، وهم أو جهلهم محتاجون إلى المجلس، وكأنهم غلبهم ما هو المألوف من الطبع الآدمي في أمثالهم، وكنت آنست ذلك فيهم، فاتفق أن خرجنا لزيارة صلحاء الساحل، فلما انتهينا إلى مقام الشيخ أبي سلهام جلسنا على شاطئ البحر:
في عشيّ كأنّما اختلسته ... من نعيم الفردوس نفحة لطف
قد قطفنا به جَنَى جَنَّتي أن ... س وعلم أشهى اجتذاب وقطف
وارتضعنا ألذ من كأس وصل ... بعد هجر من ذي وداد وعطف
ولقد كان في الحشا جذوةُ الوجد فكان منهُ لذلك مطف
فحصل للنفس ارتياح وانبساط، وتجدد لها عزم ونشاط، فكتبت ارتجالاً ما صورته: حافظته لما انقدح في الفكرة من الشعر، أذكره بحسب ما اتفق غثاً وسميناً، " ورخيصاً وثميناً " وجداً وهزلاً، وصدقاً وإزْلاً حتى إذا آن لمضروبه الترويج، وبلغت بناته أوان التزويج، دفع الخالص الإبريز، وأحظيت الحسان بالتبريز، وكان الردي أولى أن يكسر أو يعطل، والدميمة منه أحق أن تُوأدَ أو تعضل، هذا وليت شعري، ماذا أكتب اليوم؟ وقد ضاع أكثر شعري:
ليالي كان القلب في موكب الهوى ... على متن يعبُوب من اللهو سابق
وكان الشباب الغضّ فيْنَانَ مُورقاً ... فكانت رياض الغَيّ أزهى الحدائق
وللنَفسُ إذ ذاك أقدر على القيل والقال، وأعرف بالسحر الحلال، فكنت إذ ذاك أقول الفذ والنتفة والقصيدة عن نشاط إلى القول وارتياح ثم ادع ذلك يذهب مدرج الرياح، ولم أستفق لتقييد، إلاّ وقد كدت أراهق التفنيد ويقصر من وسواس النفس باطله، ويعرى أفراس الصبا ورواحله:
والقلب يرجو أن ترق شفاره ... وتطول في سبل الهدى أسفاره
ويبين عن شرك الغرور نواره ... وتلوح في رتب العلى أنواره
فيقل في سوق الصبا أوطاره ... ويشط عن وطن الهوى أقطاره