ثم إن إبليس اللعين عندما وقع له من الخزي والطرد مع صفي الله آدم عليه السلام ما وقع صار عدواً له حسوداً حقوداً وكذا لذريته إلى يوم القيامة، قال تعالى:) يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ (وقال تعالى: ") إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ (وقال تعالى:) إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (" وقال تعالى:) إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (إلى غير ذلك. فكان دأبه السعي في مضرة الآدمي كما يسعى كل عدو في مضرة عدوه، ولم يجد إلى مضرته سبيلاً أيسر ولا سبباً أنجح من أن يأتيه من قبل النفس وطريق الطبع فيزين له ما طبع من الشهوات، ويسوّل له كل قبيح، قال تعالى:) الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشاءِ (فحصل اتفاق بين النفس والشيطان على مضرة الآدمي، غير أن المقصد مختلف، فإن النفس لم تكن منها المضرة عن قصد وعداوة، كيف ولا أحب إلى كل أحد من نفسه؟ بل جهلاً وغلطاً، وذلك أنها أدركت ما في طبعها من الشهوات الحاضرة فاستحسنته، وظنت أن ذلك هو كمال صاحبها إذا ناله، فجاء الشيطان فأغراها مما استحسنت، وزين لها ما ظنت، فاعتقدته نصيحاً، واتخذته خليلاً، تلبي دعوته، وتجيب رغبته، فأتيَ الإنسان منها، وتمكن منه عدوُّه من طريقها، فصارت من هذه الوجه عدوة بل أكبر الأعداء.
وأما الشيطان لعنه الله فهو يفعل ما يفعل عن عداوة وقصد إضرار، فإنه لما خاب من رحمة الله وطرد عن بابه، نسأل الله العافية، أراد أن يسعى في خيبة الآدمي وبعده عن الله وحرمانه من نعيم الجنة باتباع الدنيا وغرورها والإكباب على شهواتها.
واعلم أن الشيطان لشدة عداوته للإنسان ليس له غرض في اتباع الإنسان للشهوات وتمتعه باللذات، بل لو أمكنه أن يسعى في حرمانه دائماً فلا ينال لذة عاجلة ولا آجلة، ولا يحصل على منفعة في الدنيا ولا في الآخرة لكان ذلك هو منيته ورغبته، وهو مقتضى العداوة وثمرة الحسد، إلاّ أنه لما لم يمكنه ذلك لفرضان رحمة الله على عباده وسبوغ نعمه عليهم رأى أن يرتكب به أعظم الضررين فيستزلّه عن أعظم الحظين بل الحظ الذي هو الحظ، وهو الأخروي، ويستهويه إلى الحظ الدنيوي، ورأى أنه إذا خاب عن النفيس الباقي واستبدله بالخسيس الفاني فقد خاب، والأمر كذلك. فإن ما في الدنيا لو كان نفيساً وهو بصدد الانقطاع لم يلتفت إليه، فكيف وهو مع ذلك خسيس " مشوب " متكدر. بل لو كان نعيم الآخرة النفيس ينقطع لوجب أن يلتفت إليه، إذ النفس إنما تجد النعمة ما دامت متناولة لها، فإذا انقطعت عنها تكدرت كالصبي الراضع متى صرف الثدي عن فيه صاح.
وما مثال النفس في ذلك إلاّ مثال المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنّهُنَّ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَإنَّكَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ ". فقد تحصل من هذا أن النفس مضرة بالإنسان من وجهين: أحدهما " أنها " تميل طبعاً إلى الشهوات وتخلد إلى الرعونات، الثاني أنها مسلك الشيطان إلى الإنسان كما مرّ، وإن الشيطان مضر للإنسان أبداً بوسوسته وتزيينه للنفس.
وهذه كلها أسباب جعلية اقتضتها الحكمة، والنافع والضار بالحقيقة هو الله تعالى، وتبين أن النفس تابعة للشيطان في مضرة الإنسان سفهاً منها وغلطاً، لا عداوة، ولسان حالها ينشد قول القائل:
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
ومن أجل ما ذكرنا بين النفس والشيطان من اختلاف الوجه، وتباين المقصد فرق أئمة التصوف رضوان الله عليهم بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني بعد اشتراكهما في الحض على السوء في الجملة، وهو أن الخاطر إذا تقاضى معصية مثلاً بعينها فإن أصر على ذلك فهو نفساني، وإن جعل يتحول من معصية إلى أخرى فهو شيطاني، ووجه ذلك أن النفس إنما تطلب المعصية بمقتضى طبعها فيها من حيث أنها شهوة لا غير، فلا تريد أن تنفك عنها حتى تنالها بعينها.
وأما الشيطان فليس طلبه من الإنسان أن ينال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة للعقاب، فمتى دعاه إلى واحدة وتعسرت أو تلكأ عليه فيها دعاه إلى أخرى لقيامها مقامها في المقصود، وهو حصول الإثم واستحقاق النار، نعوذ بالله تعالى من شره.