وأما نبوءة فتشرف كل بلدة ولد فيها نبي أو بعث أو أقام أو دفن، وتشتهر بذلك وتتعرف كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الطائف للغلام وقد قال له: إنه من نينَوى. " قَرْيَةُ أخي يُونُسَ عَلَيْهِ السّلامُ " وإما علم فكل قرية أيضاً أو بلدة كان فيها عالم أو كان منها فهي تشرف بذلك وتتعرف كما في البيت المذكور، وإما زهدٌ أو عبادة أو نحو ذلك أو ملك أو جود أو نجدة أو جمال أو خلق حسن أو غير ذلك حتى رخاء العيش وصحة الهواء، فكل ذلك ونحوه يكون به الشرف والاشتهار كما يكون الاشتهار في النقصان والمذمة بأضداد ذلك. واعلم أن المولى تبارك وتعالى من لطيف حكمته وسابغ منته كما لم يُخْلِ عبْداً من عباده من فضل عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، كثير أو قليل، كذلك لم يُخِل بقعة من بقاع الأرض من فضل، ولم يُعْرِ بلدة من مزية يتعلل بها عُمّارُها حتى لا يتركوها، وقد جعل الله تعالى الأهواء مختلفة، والطباع متفاوتة، وحبب لكل أحد ما اختصه به، ذلك تقدير العزيز العليم الحكيم، فتجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع في الشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن كثرة المياه لجودة منابتها، وصحة هوائها، وذهاب الوخم عنها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة لوجود المزارع فيها وكثرة ريفها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه بكونها جبالاً لتمنعها وعزة أهلها، وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك.

وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله:

بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشط ... وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسط

بلاد إذا ما ذقت كوثر مائِها ... أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسفِنْطِ

فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة ... تماثلها قل: أنت مجتهد مخط

وصوّبْ حديثَيْ مائِها وهوائِها ... فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي

وللآخر في تلسمان مثل هذا:

بلد الجدار ما أمرّ نواها ... كلِفَ الفؤاد بحبها وهواها

يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها

ولابن حمديس الصقلي في بلده:

ذكرت صقيلية والأسى ... يهيج للنّفسِ تذكارها

فإن كنتَ أخرجت من جنة ... فإني أحدِّثَ أخبارها

ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارها

وللأعرابي:

أقول لصاحبي والعيس تخدي ... بنا بين المُنيفةِ فالضمار

تمتع من شميم عرّار نجد ... فما بعد العشيّة من عَرّار

ألا يا حبَّذا نفحات نجد ... وَرَيّا روضه بعد القِطار

وأهلك إذ يحلّ الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار

شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سِرار

وللآخر في تونس:

لَتونِسُ تونسُ من جاءها ... وتودعه لوعة حيث سار

فيغدو ولو حلَّ أرض العراق ... يحن إليها حنين الحُوار

ويأمل عوداً ويشتاقه اش ... تياق الفرزدق عَوْد النَّوار

وللآخر في مدينة فاس:

يا فاس حيا الله أرضك من ثرى ... وسقاك من صوب الغمام المسبل

يا جنة الدنيا التي أربت على ... عَدْن بمنظرها البهيّ الأجمل

غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها ... ماء ألذ من الرحيق السلسل

وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل:

أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى ... ومن أجل من فيها تحب المنازل

وقال المجنون:

وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا

وهي خصوصية في البقعة عارضة من سكانها كالذي في البيت، فإن الميل إليها يقتضي فضلها على غيرها بالنسبة إليه، ومن هذا المعنى أكثر العرَب ذكر الحِمى كقوله:

فإن كان لم يغرّض، فإني وناقتي ... بحجر إلى أهل الحِمى غَرِضان

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

الغرض المشتاق، وكقول الآخر:

وإن الكئيب الفرد من جانب الحِمى ... إليَّ وإن لم آتهِ لحبيب

وكقول الآخر:

وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت أذودها

خليليّ ما بالعيش عتب لَو أنّنا ... وحدنا لأيام الحِمى من يعيدها

وكقول الآخر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015