سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد بخس حظنا منه، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر، والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل، وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء، وكتب الملاهي، وكتب أعوان الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات، وكتب السخفاء وحمية الجاهلية، ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الكتب، وألفت من حال الجهل وإن يكونوا في غمار الوحش، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير «1» .
وسمعت محمد بن الجهم يقول: «إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتاباً فأجد اهتزازي للفوائد الأريحية التي تعتريني من سرور الإستنباه وعز التبين، أشد إيقاظاً من نهيق الحمار، وهدة الهدم، فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته، لم أوثر عليه عوضاً، ولم أبغ به بدلاً، فلا أزال أنظر فيه ساعة بعد ساعة، كم بقي من ورقة مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قبله» «2» .
وقال ابن داحة: «كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: «لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة» «3» .