وقيل لإعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفض عرقاً كأنه الجمان ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساه وتقبل الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى.
وقال بعض الحكما: عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك. وقيل لإعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية ولزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان، وقيل: فما الذل؟ قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان. وقال بعض الأدباء: الغربة ذلة والذلة قلة، وقال الآخر: لا تنهض عن وطنك ووكرك فتنقصك الغربة وتصمتك الوحدة. وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه فلا أم ترأمه ولا أب يحدب عليه. وكان يقال:
الغريب عن وطنه ومحل رضاعه الذي زايل أرضه وفقد شربه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر. وكان يقال: الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشر عن موضعه الذي هو لكل رام رمية، وأحسن من ذلك وأصدق قول الله عز وجل:
«ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء» . وقال تعالى: «ولو أنما كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم» فقرن جل ذكره للجلاء عن الوطن بالقتل، وقال تقدست أسماؤه: «وما لنا ألّا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا» ، فجعل القتال بازاء الجلاء، قال صلى الله عليه وسلم:
«الخروج عن الوطن عقوبة» ومما قيل في ذلك من الشعر:
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبة للهماهم
حنينا إلى أرض بها اخضر شاربي ... وحلت بها عني عقود التمائم
والطف قوم بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حق التقادم
وقال آخر:
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري من نحو نجد بنافعي ... أجل لا ولكني على ذاك أنظر
ففي كل يوم قطرة ثم عبرة ... لعيشك يجري ماؤها يتحدّر