هذا الباب واسع جدل وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ نَفَائِسَ كَثِيرَةً لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْكِتَابُ عُشْرَهَا فَأَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نُبَذًا مِنْهُ: فَمِنْ آدَابِهِ أَدَبُهُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْصِدُ تَوَصُّلًا إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَتَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ تَمَيُّزٍ عن الاشباه أو تكثر بالمشتغلين عليه الْمُخْتَلِفِينَ إلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: وَلَا يَشِينُ علمه وتعليمه بشئ مِنْ الطَّمَعِ فِي رِفْقٍ تَحَصَّلَ
لَهُ مِنْ مُشْتَغِلٍ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَإِنْ قَلَّ وَلَوْ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي لَوْلَا اشْتِغَالُهُ عَلَيْهِ لَمَا أَهْدَاهَا إليه.
ودليل هذا كله ما سَبَقَ فِي بَابِ ذَمِّ مَنْ أَرَادَ بِعِلْمِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ عَلَى أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيَّ حَرْفٌ مِنْهُ: وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَوَدِدْتُ إذَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ: وَقَالَ مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إلَّا وَدِدْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنْ اللَّهِ وَحِفْظٌ
* وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ يَا قَوْمِ أَرِيدُوا بِعِلْمِكُمْ اللَّهَ فَإِنِّي لَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَتَوَاضَعَ إلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أَعْلُوَهُمْ وَلَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَعْلُوَهُمْ إلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أَفْتَضِحَ
* وَمِنْهَا أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمُرْضِيَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا مِنْ التَّزَهُّدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِفَوَاتِهَا وَالسَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إلَى حَدِّ الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنئ الِاكْتِسَابِ وَمُلَازَمَةِ الْوَرَعِ وَالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَاجْتِنَابِ الضَّحِكِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ الْمَزْحِ وَمُلَازَمَةِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ كَالتَّنْظِيفِ بِإِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ وَتَنْظِيفِ الْإِبْطِ وَإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَاجْتِنَابِ الرَّوَائِحِ الْمَكْرُوهَةِ وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ: وَمِنْهَا الْحَذَرُ مِنْ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ وَهَذِهِ أَدْوَاءٌ وَأَمْرَاضٌ يُبْتَلَى بِهَا كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْفُسِ الْخَسِيسَاتِ
* وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الْحَسَدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى اقْتَضَتْ جَعْلَ هَذَا الْفَضْلِ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ فَلَا يَعْتَرِضُ وَلَا يَكْرَهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ ولم (?) يذم اللَّهِ احْتِرَازًا مِنْ الْمَعَاصِي
* وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الرِّيَاءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يَضُرُّونَهُ حَقِيقَةً فَلَا يَتَشَاغَلُ بِمُرَاعَاتِهِمْ فَيُتْعِبَ نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط الله تعالى وَيُفَوِّتَ رِضَاهُ
* وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الْإِعْجَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ومعه عارية فان لله ما اخذو له ما أعطى وكل شئ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْجَبَ بشئ لَمْ يَخْتَرِعْهُ وَلَيْسَ مَالِكًا لَهُ وَلَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ دَوَامِهِ
* وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الِاحْتِقَارِ التأدب بما ادبنا اللَّهُ تَعَالَى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بمن اتقى) وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) فَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَرَاهُ دُونَهُ أَتْقَى لِلَّهِ تَعَالَى وَأَطْهَرُ
قَلْبًا وَأَخْلَصُ نِيَّةً وَأَزْكَى عَمَلًا ثُمَّ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَاذَا يُخْتَمُ لَهُ بِهِ فَفِي الصَّحِيحِ إنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ