وسأحكم بين هاتين القصيدتين، والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره، وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددا، وأسد مقصدا، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك، وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد، وهو قوله:

أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا؟

ثم إنه تفنن في ذكر الأسد، فوصف صورته وهيئته، ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئه مشيه واختياله، ووصف خلق نجله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضله عليه بالسخاء، ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أشرف معنى.

وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه.

والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفاظ وطلاوة السبك, فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015