آلامها، فقال لي في الجواب ما معناه: إنه لم يبق عندي ارتياع لوقوع نائبة من النوائب, وهذا معنى لو أتى به شاعر مُفْلِقٌ، أو كاتب بليغ, لاستحسن منه غاية الاستحسان.

وكنت في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بأرض فلسطين في الجيش الذي كان قبالة العدو الكافر من الفرنج -لعنهم الله، وتقابل الفريقان على مدينة يافا، وكان إلى جانبي ثلاثة فرسان من المسلمين، فتعاقدوا على الحملة إلى نحو العدو، فلمَّا حملوا صدق منهم اثنان وتلكأ واحد، فقيل له في ذلك، فقال: "الموت طعام لا تجشه1 المعدة". فلمَّا سمعت هذه الكلمة استحسنتها، وإذا هي صادرة عن رجل من أهل "بصرى" قدم2 من الأقدام.

ولو أخذت في ذكر ما سمعته من هذا لأطلت، وإنما دللت بيسير ما ذكرته على المراد، وهو أنه يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبَّع أقوال الناس في محاوراتهم, فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حكمًا كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه.

ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها:

على مثلها من أربعٍ وملاعب3

انتهى منها إلى قوله:

يرى أقبح الأشياء أوبة آملٍ ... كسته يد المأمول حلّة خائب

ثم قال:

وأحسن من نورٍ يفتِّحه الصِّبَا

ووقف عند صدر هذا البيت يردِّدُه، وإذا سائل يسأل على الباب، وهو يقول: "من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا" فقال أبو تمام:

بياض العطايا في سواد المطالب

فأتمَّ صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015