...
القسم الثاني المختص بالجمل:
2- وأما القسم الثاني المختص بالجمل، فإنه يشتمل على ضروب أربعة:
1- الضرب الأول: أن يذكر الشيء، فيؤتى فيه بمعاني متداخلة، إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر
وذلك كقول أبي تمام1:
قطعت إلى الزابيين هباته ... والتاث مأمول السحاب السبل2
من منة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغر محجل
فقوله: "منة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجل" تداخلت معانيه، إذ المنة، والصنيعة والإحسان، متقارب بعضه من بعض، وليس ذلك بتكرير؛ لأنه لو اقتصر على قوله: منة وصنيعة، وإحسان لجاز أن يكون تكريرًا، ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكرير، فقال: "منة مشهورة"، فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها، و"صنيعة بكر"، فوصفها بالبكارة، أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل، و"إحسان أغر محجل"، فوصفه بالغرة والتحجيل: أي هو ذو محاسن متعددة، فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابًا، ولم يكن تكريرًا.
ولم أجد في ضروب الإطناب أحسن من هذا الموضع، ولا ألطف وقد استعمله أبو تمام في شعره كثيرا، بخلاف غيره من الشعراء كقوله3:
زكي سجاياه4 تضيف ضيوفه ... ويرجى مرجيه ويسأل سائله
فإن غرضه من هذا القول إنما هو ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء، إلا أنه وصفه بصفات متعددة، فجعل ضيوفه تضيف، وراجيه يرجى وسائله يسأل، وليس هذا تكريرا؛ لأنه يلزم من كون ضيوفه تضيف أن يكون راجيه مرجوا، ولا أن يكون سائله مسؤلا؛ لأن ضيفه يستصحب ضيفا، طمعا في كلام مضيفه، وسائله يسأل: أي أنه يعطي السائل عطاء كثيرًا يصير به معطيًا، وراجيه يرجى: أي أنه إذا تعلق به رجاء راج، فقد أيقن بالفلاح والنجاح، فهو حقيق بأن يرجى لمكان رجائه إياه، وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة