تقديره أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة بمفازة، فاستضاء بها ما حوله، فاتقى ما يخاف وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلمًا خائفًا، وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها، واعتز بعزها، وأمن على نفسه وماله وولده، فإذا مات عاد إلى الخوف، وبقي في العذاب والنقمة.
ومما ورد في الأخبار النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها، وطعمها مر".
وهذا من باب تشبيه المركب بالمركب، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن القارئ، وهو متصف بصفتين هما الإيمان، والقراءة بالأترجة، وهي ذات وصفين، هما الطعم والريح، وكذلك يجري الحكم في المؤمن غير القارئ، وفي المنافق القارئ، وفي المنافق غير القارئ.
وقد جاءني شيء من ذلك أوردته في فصل من كتاب أصف فيه البر والمسير، فقلت: "لم أزل أصل الذميل بالذميل، وألف الضحى بالأصيل، والأرض كالبحر في سعة صدره، والمطايا كالجواري راكدة على ظهره، فمكان الركب منها كمكانهم من الأكوار، ومسيرهم فيها على كرة لا تستقر بها حركة الأدوار".
وأما ما ورد من ذلك شعرًا فكقول البحتري1:
خلقٌ منهم تردد فيهم ... وليته عصابة عن عصابه
كالحسام الجراز2 يبقى على الده ... ر ويفنى في كل حينٍ قرابه