منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضِمْنِها من المعاني المبتدعة.

على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعًا في مواضع عدة، فجاء بها منحطَّة عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغثِّ البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها, وله أيضًا كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه، لما بينهما من التفاوت البعيد.

وبلغني عن الشيخ أبي محمد [عبد الله بن1] أحمد بن الخشاب النحوي2 -رحمه الله, أنه كان يقول: ابن الحريري رجل مقامات، أي: إنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئًا.

فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور، ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان، والجمال. وعلى هذا فإذا ركَّب الله تعالى في الإنسان طبعًا قابلًا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.

النوع الأول: معرفة علم العربية من النحو والتصريف.

النوع الثاني: معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره المعيب.

النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضًا.

النوع الرابع: الاطّلاع على تأليفات من تقدَّمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة، والتحفظ للكثير منه.

النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية الإمامة، والإمارة والقضاء، والحسبة3 وغير ذلك.

النوع السادس: حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه.

النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال.

النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر، وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.

ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع، ليعلم أن معرفته مما تمس الحاجة إليه فنقول:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015